العدد 81
الثلاثاء 02 كانون الثاني 2024
ماذا بعد بعد حرب غزة؟
مقال
سياسي
رياض
طبارة
لم تنته حرب غزة بعد ولكن
ما حصل حتى اليوم غيّر معالم الإستراتيجية الدولية في الشرق الأوسط. فبعد حرب 1973
بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، بدأت عملية سلام بين العرب وإسرائيل
كان نتيجتها اتفاقيتي سلام بين إسرئيل وكل من مصر (1979) والأردن (1994) تبعتها
عمليات "تطبيع" سنة 2020 بين إسرائيل و كل من دولة الإمارات العربية،
والبحرين، والمغرب والسودان تحت عنوان "إتفاقات إبراهيم." وقبيل عملية
حماس في 7 أكتوبر الماضي كان الكلام عن أن عملية تطبيع جديدة ستحصل خلال بضعة أيام
بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. هذا التطبيع الأخير، لو حصل، كان سيعتبر
بمثابة نهاية للصراع بين الدول العربية وإسرائيل، لما للمملكة من وزن سياسي في
المنطقة.
عملية السلام هذه قلبت
تدريجياً المعادلة التقليدية للسلام بين العرب وإسرائيل التي كانت، منذ بداية
الصراع، تؤكد أن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل وأن لا سلام بين العرب وإسرائيل
دون أن يسبقها حل عادل وشامل لها.
عملية حماس في 7 أكتوبر أعادت
القضية الفلسطينية إلى واجهة الصراع العربي الإسرائيلي معلنة أن لا سلام شامل مع
إسرائيل دون أن يسبقه حل شامل للقضية الفلسطينية. الدليل على ذلك أن كل تصريحات
قيادات الدول الغربية الفاعلة، من جو بايدن إلى ريشي سوناك إلى إيمانويل ماكرون
الى أولاف شولتز ، تؤكد تكراراً أن مفاوضات لحل القضية الفلسطينية على أساس
الدولتين يجب أن يتبع مباشرة نهاية الحرب على غزة. يقول بايدن في هذا الصدد:
"عندما تنتهي هذه الأزمة، ما سيأتي بعدها برأينا يجب أن يكون حل الدولتين."
الكلام عن حل الدولتين قد
يكون كلاماً تخديرياً لتهدئة الخواطر العربية، ولكنه سيستجلب إعادة إحياء فكرة
الدولة الواحدة التي كان قد اقترحها ياسر عرفات في أول خطاب له في الجمعية العامة
للأمم المتحدة سنة 1974. ففي هذا الخطاب الشهير قال عرفات: "فلماذا لاأحلم يا
سيادة الرئيس...فلنعمل معاً على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش...
في ظل دولة واحدة ديمقراطية. لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية
ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي." وكما هو معروف أسقطت إسرائيل غصن
الزيتون ومعه حل الدولة الواحدة لتعمل منذ ذلك الحين على إسقاط حل الدولتين من
خلال حقائق إستيطانية على الأرض.
أما حكومة نتنياهو، وخاصة
المتطرفين فيها أمثال إيتمار بن غفير وبتسئيل سموتريتش، فترفض بشكل حاسم حل الدولة
الواحدة أو الدولتين وتحلم باحتلال وبضم قطاع غزة إلى الكيان الإسرائيلي ولربما
الضفة الغربية إذا أمكن.
هذه الأفكار الثلاثة ستكون
بلا شك الإشكالية الكبرى التي ستواجه المجتمع الدولي بعد حرب غزة.
ولكن ماذا ما بعد بعد حرب
غزة؟ ما هي الآثار البعيدة المدى لهذه الحرب المدمرة وجرائم الحرب التي ارتكبتها
وترتكبها إسرائيل، على نطاق غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، من إبادة
جماعية وتطهيرعرقي وانتهاكات صارخة للقانون الإنساني؟ لا شك أنه سيكون لهذا الزلزال
ِآثار ستطبع الجو السياسي الدولي في الأمدين المتوسط والبعيد. هذه منهاِ:
أولاً: نتنياهو والمتطرفون
الضحية الأولى بعد الحرب
سيكون بنيامين نتنياهو ورفاقه المتطرفون. الإسرائيليون سيحاسبوا حكومة نتنياهو على
عدم حماية الحدود الجنوبية ومقتل وأسر الآلاف وعلى اضطرارها لإخلاء المستوطنات
الشمالية وخاصة ضياع هيبة الجيش الإسرائيلي الذي "لا يقهر" ما جعل إسرائيل
عرضة لأي هجوم مماثل في المستقبل. حاولت أميركا وحلفائها التعويض عن هذه الحال
بتحريك أساطيلها وبناء جسر جوي للمساعدات العسكرية للجيش الإسرائيلي ولكن هذا، إن
دل على شيئ، فهو أن إسرائيل لم تستطع بقواها الذاتية مواجهة مكون مقاوم واحد في
المنطقة. وبهذا تكون قد اقتربت نهاية نتنياهو السياسية مع رفاقه المتطرفين وقد
يأخذوا حياة بايدن السياسية معهم.
ثانياُ: إسرائيل والرأي
العام العالمي
جميع إستطلاعات الرأي في
الدول الغربية تشير إلى تحول كبير في مدى التعاطف الشعبي مع الكيان الصهيوني،
وخاصة بين الشباب، ما يعني أنه قد يكون طويل الأمد. هذا صحيح حتى في ألمانيا
وأميركا، البلدان اللذان يساندان إسرائيل في حربها دون تحفظ. في المانيا مثلاً
تظهر استطلاعات أجريت في الربع الأخير من الشهر الماضي أن حوالي ثلث السكان فقط
يوافقون على سياسة دولتهم تجاه الحرب على غزة، وفي الولايات المتحدة أن أكثر من
نصف الناخبين المحتملين لا يوافقون على سياسة الدولة. وهناك انقسامات داخل وزارة
الخارجية الأميركية وبين موظفي الكونغرس وصلت إلى حدود غير مسبوقة وصفتها بعض
وسائل الإعلام الأميركية بالـ "تمرد".
وكأن المشاعر المعادية
للكيان الصهيوني كانت مكبوتة في أميركا وانفجرت فجأة بعد هجوم 7 أكتوبر ثم تعاظمت
بسرعة في الأسابيع التي تلته. أغرب انفجار في هذا المجال ما يحدث داخل المجتمع
الفني في هوليوود، الذي كان وما زال اليهود مسيطرين عليه. كتّاب ومخرجون وممثلون
تكلموا فجأة، وبحدة وصراحة غير مسبوقتين، ضد ما تفعله إسرائيل تجاه غزة
والفلسطينيين، ما نتج عنه معاقبات دفعوا هؤلاء ثمنها غاليا. على سبيل
المثال،الممثلة الشهيرة سوزان سارندن، تخلت عنها الوكالة التي كانت تمثلها لأنها
قالت بأن اليهود في أميركا يشعرون بالقلق على أنفسهم ما يجعلهم يتفهمون ما يشعر به
المسلمون الذين طالما تعرضوا لأعمال عنف. الممثلة المعروفة، ميليسا برّيرا، خسرت
الدور المقرر لها في فيلم قادم لأنها قالت أن الإعلام الغربي يصطف دائما الى جانب
إسرائيل. "لماذا يفعلون ذلك؟ سأترك الجواب لكم." عارضة الأزياء العالمية
بيلا حديد قالت مؤخراً أنها تستلم يومياً تهديدات بالقتل بسبب مساندتها
للفلسطينيين. وهناك عشرات الأمثال لمدراء شركات وقياديين في المجالات الاقتصادية
كما لأشخاص عاديين خسروا عملهم لمجرد أن أسماءهم توحي بأنهم من أصول عربية.
هذه الإنتفاضة، وكمّ
الأفاواه المعاكس، وصلا الى الجالية اليهودية نفسها في اميركا والغرب، وحتى داخل
الكيان الإسرائيلي. في أميركا مثلاً لم يكن هناك ذكر في الإعلام عن إسرائيل
وفلسطين سوى مواقف إيباك (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية) ومواقف
"جاي ستريت" المعارضة له، علماً بان الأخيرة هي أيضاً مساندة لإسرائيل ،
ولكنها تؤمن بالحل السلمي للقضية الفلسطينية على أساس الدولتين. منذ 7 أكتوبر
تغيرت الأمور وأصبحنا نسمع بمنظمات يهودية معادية للكيان الصهيوني لم يكن الإعلام الأميركي
يعطيها أية أهمية أو أية مساحة إعلامية تذكر. أمثال هذه منظمة "الصوت اليهودي
للسلام" (Jewish Voice for Peace) المعادية
للصهيونية والتي تؤمن بحق الفلسطينيين بدولة على حدود الـ 1967، و"إذا لم يكن
الآن" (If Not Now) التي تعمل ضد الفصل
العنصري (الأبرتايد) في فلسطين، ومنظمة "نيتوراي كارتا " المؤلفة من
اليهود الأرثوذكس في نيويورك، ومنظمة "أكسر حاجز الصمت" (Break the
Silence) وغيرها الكثير ممن ينظمون المظاهرات أو يشتركون
فيها وأصبحوا من المشاركين المنتظمين في البرامج التلفزيونية ووسائل الإعلام
الأخرى.
ثالثاً: ألعداء للسامية
والشرخ الديني والإثني.
من أهم نتائج حرب إسرائيل
على غزة هو بلا شك التصاعد الهائل في حوادث الكراهية بالبلدان الغربية. في أميركا
تقول الإحصاءات أن حوادث العداء للسامية تضاعفت، خلال الشهرين التاليين لـ 7
أكتوبر، ثلاثة الى أربع أضعاف، وهي في تصاعد مستمر. في أوروبا، حيث الكراهية لليهود
هي أكثر رسوخا، تصاعدت أيضاً حوادث العداء للسامية الى حدود غير مسبوقة. فبحسب
إحصاءات أوردتها مراجع أوروبية موثوقة تضاعفت هذه الحوادث خلال الشهر التالي لـ 7
أكتوبر حوالي 300 بالمئة في النمسا وألمانيا و800 بالمئة في هولندا وأصبحت، بحسب
تصريح مسؤول في الاتحاد الأوروبي نشرته صحيفة الـ غارديان مؤخراً، تشكل خطراً
وجوديا لليهود في بعض المدن الأوروبية. أما حوادث العداء للعرب والمسلمين التي
كانت منتشرة أصلاً في أميركا وأوروبا فهي تصاعدت بدورها أيضاً.
لا بد من الإشارة هنا أن
تحديد العداء للسامية يشكل بحد ذاته بداية سجال حاد داخل المجتمع الأميركي.
فالإدارة الأميركية في عهد الرئيس ترامب تبنت التحديد الذي طرحته المؤسسات
اليهودية سنة 2016 والقائل بأن "العداء لإسرائيل هو عداء للسامية" وقد
طور الكونغرس هذا المفهوم حديثا بقرار أعلن فيه أن "العداء للصهيونية هو عداء
للسامية" ما قد يشكل مخالفة دستورية (التعديل ألاول حول حرية التعبير) بحسب
خبراء أميركيين كثر. ردة الفعل من قبل كثير من المنظمات الحقوقية الأميركية
والاكاديميين وغيرهم اشعلت حرباً كلامية بين الإفرقاء المعنيين وصلت الى زعزعة
القيادات في الجامعات الأميركية العريقة.
رابعاً: جرائم الحرب
لا شك أن الحرب على غزة
ستكون من أكثر الحروب توثيقاً، لوحشيتها من جهة، ولإمكانات التوثيق المتاحة من صور
وفيديوهات يسجلها محترفون وفنيون كما عامة الناس. بعض هذا التوثيق يذهب باتجاه
دعاوى ضد أعمال إسرائيل التي تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الِإنسانية وإبادة جماعية.
بداية لهذه الدعاوى بدأت تظهر حتى قبل انتهاء الحرب ولا شك أنها ستكون مكثفة بعده.
المنظمات الحقوقية الدولية، رغم الضغوط التي تتعرض لها من قبل أميركا وإسرائيل
وبعض الدول الغربية، أعلنت في تقارير عدة أنها وثقت جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في
حربها على غزة وانها ما زالت في صدد توثيق مثل هذه الارتكابات. كما أعلنت منظمة
هيومن رايتس ووتش وغيرها الشيء نفسه. وقامت بعض المنظمات الحقوقية الفلسطينية
بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وهناك عدد متزايد من العرائض قدمها
خبراء حقوقيون للمؤسسات الدولية منها واحدة وقع عليها أكثر من 800 خبير. وكما يذكر
جميع المدعين في هذا المجال من السهل إثبات هذه التهم على إسرائيل بناءً على
تصريحات كبار المسؤولين فيها التي لا تترك مجالا للشك بأن إسرائيل انتهكت عمداً
وبوضوح بنود الاتفاقية الدولية حول الإبادة الجماعية لسنة 1948 وغيرها من
الإتفاقات والقرارات الدولية.
ما الذي سيؤمن استدامة
الاهتمام العالمي بنتائج الحرب على غزة ومتابعتها بينما حروب إسرائيل على غزة في
الماضي لم تدم مفاعيلها طويلاً، على الأقل في الضمير الغربي أو في ذاكرة المجتمع
الدولي؟ السبب الأول هو وحشيتها غير المسبوقة وانتهاكاتها الصارخة للمواثيق الدولية
والأعراف الإنسانية. وربما الأهم هو أنها حققت تغيراً سريعاً وعميقاً في ثقافة
الغرب تجاه القضية الفلسطينية وأصبحت غزة عنواناً للمطالبة بالحرية وفلسطين ورمزاً
لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. والأهم الِأهم هو أنها حركت جيلاً من الشباب في
جميع انحاء العالم وهؤلاء هم قيادات المستقبل. قال أحد كبار المسؤولين في الإدارة
الأميركية لمجلة بوليتيكو قبل الهدنة القصيرة الماضية بأن الإدارة الأميركية
متخوفة من أن أية هدنة، ولو قصيرة، ستسمح للصحفيين بالإنارة على الخراب الذي سببته
إسرائيل ما سينعكس انقلابا في الرأي العام العالمي عليها. وقد بدأت تظهر بالفعل
طلائع سيل كبير من الأفلام والوثائقيات بالظهور تتجاوزبكثير ما ظهر بعد حروب
إسرائيل الماضية على غزة.
لم تنته الحرب بعد وقد
انتشرت الأغاني والأناشيد تمجد مقاومة غزة بلغات الغرب المختلفة، بما في ذلك
السويدية ("لتحيا فلسطين ولتسحق الصهيونية") بعضها وصل إلى النجومية
بسرعة فائقة. تقول إحداها: "تستطيعون أن تحرقوا جوامعنا ومنازلنا ومدارسنا
ولكن روحنا لن تموت ولن ننهزم."