Wednesday, January 3, 2024

ما بعد غزة

 


العدد 81

الثلاثاء 02 كانون الثاني 2024

ماذا بعد بعد حرب غزة؟

مقال سياسي

رياض طبارة

لم تنته حرب غزة بعد ولكن ما حصل حتى اليوم غيّر معالم الإستراتيجية الدولية في الشرق الأوسط. فبعد حرب 1973 بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، بدأت عملية سلام بين العرب وإسرائيل كان نتيجتها اتفاقيتي سلام بين إسرئيل وكل من مصر (1979) والأردن (1994) تبعتها عمليات "تطبيع" سنة 2020 بين إسرائيل و كل من دولة الإمارات العربية، والبحرين، والمغرب والسودان تحت عنوان "إتفاقات إبراهيم." وقبيل عملية حماس في 7 أكتوبر الماضي كان الكلام عن أن عملية تطبيع جديدة ستحصل خلال بضعة أيام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. هذا التطبيع الأخير، لو حصل، كان سيعتبر بمثابة نهاية للصراع بين الدول العربية وإسرائيل، لما للمملكة من وزن سياسي في المنطقة.

عملية السلام هذه قلبت تدريجياً المعادلة التقليدية للسلام بين العرب وإسرائيل التي كانت، منذ بداية الصراع، تؤكد أن القضية الفلسطينية هي مفتاح الحل وأن لا سلام بين العرب وإسرائيل دون أن يسبقها حل عادل وشامل لها.

 عملية حماس في 7 أكتوبر أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الصراع العربي الإسرائيلي معلنة أن لا سلام شامل مع إسرائيل دون أن يسبقه حل شامل للقضية الفلسطينية. الدليل على ذلك أن كل تصريحات قيادات الدول الغربية الفاعلة، من جو بايدن إلى ريشي سوناك إلى إيمانويل ماكرون الى أولاف شولتز ، تؤكد تكراراً أن مفاوضات لحل القضية الفلسطينية على أساس الدولتين يجب أن يتبع مباشرة نهاية الحرب على غزة. يقول بايدن في هذا الصدد: "عندما تنتهي هذه الأزمة، ما سيأتي بعدها برأينا يجب أن يكون حل الدولتين."

الكلام عن حل الدولتين قد يكون كلاماً تخديرياً لتهدئة الخواطر العربية، ولكنه سيستجلب إعادة إحياء فكرة الدولة الواحدة التي كان قد اقترحها ياسر عرفات في أول خطاب له في الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974. ففي هذا الخطاب الشهير قال عرفات: "فلماذا لاأحلم يا سيادة الرئيس...فلنعمل معاً على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش... في ظل دولة واحدة ديمقراطية. لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي." وكما هو معروف أسقطت إسرائيل غصن الزيتون ومعه حل الدولة الواحدة لتعمل منذ ذلك الحين على إسقاط حل الدولتين من خلال حقائق إستيطانية على الأرض.

أما حكومة نتنياهو، وخاصة المتطرفين فيها أمثال إيتمار بن غفير وبتسئيل سموتريتش، فترفض بشكل حاسم حل الدولة الواحدة أو الدولتين وتحلم باحتلال وبضم قطاع غزة إلى الكيان الإسرائيلي ولربما الضفة الغربية إذا أمكن.

هذه الأفكار الثلاثة ستكون بلا شك الإشكالية الكبرى التي ستواجه المجتمع الدولي بعد حرب غزة.

ولكن ماذا ما بعد بعد حرب غزة؟ ما هي الآثار البعيدة المدى لهذه الحرب المدمرة وجرائم الحرب التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل، على نطاق غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، من إبادة جماعية وتطهيرعرقي وانتهاكات صارخة للقانون الإنساني؟ لا شك أنه سيكون لهذا الزلزال ِآثار ستطبع الجو السياسي الدولي في الأمدين المتوسط والبعيد. هذه منهاِ:

أولاً: نتنياهو والمتطرفون

الضحية الأولى بعد الحرب سيكون بنيامين نتنياهو ورفاقه المتطرفون. الإسرائيليون سيحاسبوا حكومة نتنياهو على عدم حماية الحدود الجنوبية ومقتل وأسر الآلاف وعلى اضطرارها لإخلاء المستوطنات الشمالية وخاصة ضياع هيبة الجيش الإسرائيلي الذي "لا يقهر" ما جعل إسرائيل عرضة لأي هجوم مماثل في المستقبل. حاولت أميركا وحلفائها التعويض عن هذه الحال بتحريك أساطيلها وبناء جسر جوي للمساعدات العسكرية للجيش الإسرائيلي ولكن هذا، إن دل على شيئ، فهو أن إسرائيل لم تستطع بقواها الذاتية مواجهة مكون مقاوم واحد في المنطقة. وبهذا تكون قد اقتربت نهاية نتنياهو السياسية مع رفاقه المتطرفين وقد يأخذوا حياة بايدن السياسية معهم.

ثانياُ: إسرائيل والرأي العام العالمي

جميع إستطلاعات الرأي في الدول الغربية تشير إلى تحول كبير في مدى التعاطف الشعبي مع الكيان الصهيوني، وخاصة بين الشباب، ما يعني أنه قد يكون طويل الأمد. هذا صحيح حتى في ألمانيا وأميركا، البلدان اللذان يساندان إسرائيل في حربها دون تحفظ. في المانيا مثلاً تظهر استطلاعات أجريت في الربع الأخير من الشهر الماضي أن حوالي ثلث السكان فقط يوافقون على سياسة دولتهم تجاه الحرب على غزة، وفي الولايات المتحدة أن أكثر من نصف الناخبين المحتملين لا يوافقون على سياسة الدولة. وهناك انقسامات داخل وزارة الخارجية الأميركية وبين موظفي الكونغرس وصلت إلى حدود غير مسبوقة وصفتها بعض وسائل الإعلام الأميركية بالـ "تمرد".

وكأن المشاعر المعادية للكيان الصهيوني كانت مكبوتة في أميركا وانفجرت فجأة بعد هجوم 7 أكتوبر ثم تعاظمت بسرعة في الأسابيع التي تلته. أغرب انفجار في هذا المجال ما يحدث داخل المجتمع الفني في هوليوود، الذي كان وما زال اليهود مسيطرين عليه. كتّاب ومخرجون وممثلون تكلموا فجأة، وبحدة وصراحة غير مسبوقتين، ضد ما تفعله إسرائيل تجاه غزة والفلسطينيين، ما نتج عنه معاقبات دفعوا هؤلاء ثمنها غاليا. على سبيل المثال،الممثلة الشهيرة سوزان سارندن، تخلت عنها الوكالة التي كانت تمثلها لأنها قالت بأن اليهود في أميركا يشعرون بالقلق على أنفسهم ما يجعلهم يتفهمون ما يشعر به المسلمون الذين طالما تعرضوا لأعمال عنف. الممثلة المعروفة، ميليسا برّيرا، خسرت الدور المقرر لها في فيلم قادم لأنها قالت أن الإعلام الغربي يصطف دائما الى جانب إسرائيل. "لماذا يفعلون ذلك؟ سأترك الجواب لكم." عارضة الأزياء العالمية بيلا حديد قالت مؤخراً أنها تستلم يومياً تهديدات بالقتل بسبب مساندتها للفلسطينيين. وهناك عشرات الأمثال لمدراء شركات وقياديين في المجالات الاقتصادية كما لأشخاص عاديين خسروا عملهم لمجرد أن أسماءهم توحي بأنهم من أصول عربية.

هذه الإنتفاضة، وكمّ الأفاواه المعاكس، وصلا الى الجالية اليهودية نفسها في اميركا والغرب، وحتى داخل الكيان الإسرائيلي. في أميركا مثلاً لم يكن هناك ذكر في الإعلام عن إسرائيل وفلسطين سوى مواقف إيباك (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية) ومواقف "جاي ستريت" المعارضة له، علماً بان الأخيرة هي أيضاً مساندة لإسرائيل ، ولكنها تؤمن بالحل السلمي للقضية الفلسطينية على أساس الدولتين. منذ 7 أكتوبر تغيرت الأمور وأصبحنا نسمع بمنظمات يهودية معادية للكيان الصهيوني لم يكن الإعلام الأميركي يعطيها أية أهمية أو أية مساحة إعلامية تذكر. أمثال هذه منظمة "الصوت اليهودي للسلام" (Jewish Voice for Peace) المعادية للصهيونية والتي تؤمن بحق الفلسطينيين بدولة على حدود الـ 1967، و"إذا لم يكن الآن" (If Not Now) التي تعمل ضد الفصل العنصري (الأبرتايد) في فلسطين، ومنظمة "نيتوراي كارتا " المؤلفة من اليهود الأرثوذكس في نيويورك، ومنظمة "أكسر حاجز الصمت" (Break the Silence) وغيرها الكثير ممن ينظمون المظاهرات أو يشتركون فيها وأصبحوا من المشاركين المنتظمين في البرامج التلفزيونية ووسائل الإعلام الأخرى.

ثالثاً: ألعداء للسامية والشرخ الديني والإثني.

من أهم نتائج حرب إسرائيل على غزة هو بلا شك التصاعد الهائل في حوادث الكراهية بالبلدان الغربية. في أميركا تقول الإحصاءات أن حوادث العداء للسامية تضاعفت، خلال الشهرين التاليين لـ 7 أكتوبر، ثلاثة الى أربع أضعاف، وهي في تصاعد مستمر. في أوروبا، حيث الكراهية لليهود هي أكثر رسوخا، تصاعدت أيضاً حوادث العداء للسامية الى حدود غير مسبوقة. فبحسب إحصاءات أوردتها مراجع أوروبية موثوقة تضاعفت هذه الحوادث خلال الشهر التالي لـ 7 أكتوبر حوالي 300 بالمئة في النمسا وألمانيا و800 بالمئة في هولندا وأصبحت، بحسب تصريح مسؤول في الاتحاد الأوروبي نشرته صحيفة الـ غارديان مؤخراً، تشكل خطراً وجوديا لليهود في بعض المدن الأوروبية. أما حوادث العداء للعرب والمسلمين التي كانت منتشرة أصلاً في أميركا وأوروبا فهي تصاعدت بدورها أيضاً.

لا بد من الإشارة هنا أن تحديد العداء للسامية يشكل بحد ذاته بداية سجال حاد داخل المجتمع الأميركي. فالإدارة الأميركية في عهد الرئيس ترامب تبنت التحديد الذي طرحته المؤسسات اليهودية سنة 2016 والقائل بأن "العداء لإسرائيل هو عداء للسامية" وقد طور الكونغرس هذا المفهوم حديثا بقرار أعلن فيه أن "العداء للصهيونية هو عداء للسامية" ما قد يشكل مخالفة دستورية (التعديل ألاول حول حرية التعبير) بحسب خبراء أميركيين كثر. ردة الفعل من قبل كثير من المنظمات الحقوقية الأميركية والاكاديميين وغيرهم اشعلت حرباً كلامية بين الإفرقاء المعنيين وصلت الى زعزعة القيادات في الجامعات الأميركية العريقة.

رابعاً: جرائم الحرب

لا شك أن الحرب على غزة ستكون من أكثر الحروب توثيقاً، لوحشيتها من جهة، ولإمكانات التوثيق المتاحة من صور وفيديوهات يسجلها محترفون وفنيون كما عامة الناس. بعض هذا التوثيق يذهب باتجاه دعاوى ضد أعمال إسرائيل التي تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الِإنسانية وإبادة جماعية. بداية لهذه الدعاوى بدأت تظهر حتى قبل انتهاء الحرب ولا شك أنها ستكون مكثفة بعده. المنظمات الحقوقية الدولية، رغم الضغوط التي تتعرض لها من قبل أميركا وإسرائيل وبعض الدول الغربية، أعلنت في تقارير عدة أنها وثقت جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في حربها على غزة وانها ما زالت في صدد توثيق مثل هذه الارتكابات. كما أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها الشيء نفسه. وقامت بعض المنظمات الحقوقية الفلسطينية بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وهناك عدد متزايد من العرائض قدمها خبراء حقوقيون للمؤسسات الدولية منها واحدة وقع عليها أكثر من 800 خبير. وكما يذكر جميع المدعين في هذا المجال من السهل إثبات هذه التهم على إسرائيل بناءً على تصريحات كبار المسؤولين فيها التي لا تترك مجالا للشك بأن إسرائيل انتهكت عمداً وبوضوح بنود الاتفاقية الدولية حول الإبادة الجماعية لسنة 1948 وغيرها من الإتفاقات والقرارات الدولية.

ما الذي سيؤمن استدامة الاهتمام العالمي بنتائج الحرب على غزة ومتابعتها بينما حروب إسرائيل على غزة في الماضي لم تدم مفاعيلها طويلاً، على الأقل في الضمير الغربي أو في ذاكرة المجتمع الدولي؟ السبب الأول هو وحشيتها غير المسبوقة وانتهاكاتها الصارخة للمواثيق الدولية والأعراف الإنسانية. وربما الأهم هو أنها حققت تغيراً سريعاً وعميقاً في ثقافة الغرب تجاه القضية الفلسطينية وأصبحت غزة عنواناً للمطالبة بالحرية وفلسطين ورمزاً لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. والأهم الِأهم هو أنها حركت جيلاً من الشباب في جميع انحاء العالم وهؤلاء هم قيادات المستقبل. قال أحد كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية لمجلة بوليتيكو قبل الهدنة القصيرة الماضية بأن الإدارة الأميركية متخوفة من أن أية هدنة، ولو قصيرة، ستسمح للصحفيين بالإنارة على الخراب الذي سببته إسرائيل ما سينعكس انقلابا في الرأي العام العالمي عليها. وقد بدأت تظهر بالفعل طلائع سيل كبير من الأفلام والوثائقيات بالظهور تتجاوزبكثير ما ظهر بعد حروب إسرائيل الماضية على غزة.

لم تنته الحرب بعد وقد انتشرت الأغاني والأناشيد تمجد مقاومة غزة بلغات الغرب المختلفة، بما في ذلك السويدية ("لتحيا فلسطين ولتسحق الصهيونية") بعضها وصل إلى النجومية بسرعة فائقة. تقول إحداها: "تستطيعون أن تحرقوا جوامعنا ومنازلنا ومدارسنا ولكن روحنا لن تموت ولن ننهزم."


Thursday, December 14, 2023

ديموقرطية الفيتو

 

 

 

 

ديموقراطية الفيتو

14-12-2023

 

 

رياض طبارة*

 

#الفيتو، أي حق النقض، هو آلية تسمح لأقلية أن تعطل قراراً تبنته الأكثرية المطلقة. الفيتو الشائع في معظم الديموقراطيات (بما في ذلك #لبنان) يهدف عادة لتنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي معظم الديموقراطيات مثلاً، يستطيع رئيس الدولة أن يستعمل حق الفيتو ضد أي قرار يتخذه المجلس التشريعي بالأكثرية المطلقة، ولكن الأخير يستطيع أن يتجاوز فيتو الرئاسة إذا قررت أكثرية الثلثين ذلك. في هذه الحالة يكون هناك آلية للنقض وآلية أخرى لنقض النقض. وفي كل هذه الدول، هناك أمور تعتبر حساسة تتطلب ثلثي أصوات المجلس التشريعي أصلأً، ولا لزوم فيها لحق النقض.


ولكن حق النقض، حتى في حال وجود آلية تسمح بنقض النقض، يتعارض مع حكم الأكثرية المطلقة الذي هو من أسس الديموقراطية، وشعاره أن الأغلبية تحكم والأقلية تعارض. كما أن استعمال حق النقض يقلل من فعالية اتخاذ القرارات، حتى عندما يترافق مع آلية لنقض النقض، وكثيراً ما يشلها شللا تاماً.
تستعمل الديموقراطيات حق النقض رغم هذا التعارض، ورغم ما قد يترتب عليه من سلبيات في آلية اتخاذ القرارات، لأنه يوفر ضمانة ضد اتخاذ التشريعات المتسرعة وبالأخص لأنه يشكل حماية إضافية للأقليات. فالإنتظام في اتخاذ التشريعات كما حماية الأقليات، يكفلها الدستور في الأنظمة الديموقراطية، ولكن هذا لا يُعتبر كافياً بالنسبة لبعض الأمور الحساسة، كتعديل الدستور مثلاً، أو سن بعض القوانين التي تعتبر كيانية أو مصيرية.

وتسعى هذه الدول عادة للوصول الى توازن مناسب بين فعالية اتخاذ القرارات وبين الحماية الإضافية للدستور والأأقليات، على أن تبقى الأكثرية المطلقة هي الأساس في اتخاذ القرارات، وحق النقض الاستثناء. بمعنى آخر، فالديموقراطيات تعتبر ضمناً أن حق النقض، إذا استعمل بتأن وفي حالات محددة ومحدودة، قد تكون منافعه تتخطى مساوئه، وفي هذه الحال فتعارضه مع حكم الأكثرية يكون مبرراً والبلبلة التي قد تنجم عن استعماله تبقى ضمن حدود مقبولة.

الإختلال الصارخ في هذا التوازن ضمن إطار ديموقراطي هو في ألية اتخاذ القرارات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ففي مجلس الأمن، كما هو معروف، هناك خمس دول دائمة العضوية وعشر دول منتخبة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنتين. الفيتو هو حق للدول الخمس الأولى فقط، وليس هناك آلية لنقض النقض، ونادرا ما تنجح مفاوضات لاحقة، إذا حصلت، بتغييير موقف الدولة أو الأقلية الناقضة.

لا بد من الإشارة في هذا السياق أن استعمال الفيتو في مجلس الأمن هو عادة من جهة سياسية إيديولوجية واحدة تتغير مع الزمن. فمنذ أولى جلسات مجلس الأمن سنة 1946، وحتى منتصف الستينات، كان استعمال الفيتو في مجلس الأمن كثيفاً، ومصدره بشكل أساسي الاتحاد السوفياتي، المحاصر من قبل الغرب، لدرجة أن الفيتو لُقّب في أروقة الأمم المتحدة في حينه بـ"نيات" (
Niet) أي "لا" بالروسية. ومن أوائل الستينات وحتى التسعينات تحولت "نيات" الى نو "No" عندما أنتقل استعمال حق النقض بشكل أساسي إلى المجموعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما استعملته دفاعاً عن إسرائيل. ومؤخراً اختلطت "النيات" بالـ "نو"، أميركا تستعمله لحماية إسرائيل والاتحاد الروسي لحماية دوره في الحرب الأوكرانية. هذه المواجهة التاريخية الإديولوجية بين الشرق والغرب تفسر الى حد كبير لماذا لم يحصل تغيير في المواقف بعد الفيتو، ولا مفاوضات منتجة، فمعظم مشاريع القرارات بقيت دون اتفاق، أو لم تقدم أصلاً للتصويت تحسباُ للفيتو. وهذا ما دفع بعض الدول الكبرى لخوض حروب قاتلة دون الرجوع للمجلس (فييتنام، أوكرانيا وغيرها) ودول أخرالى حروب داخلية مميتة (السودان، رواندا مثلاً) دون استطاعة مجلس الأمن إيقافها، وهو الذي تأسس أصلاً لتفادي مثل هذه الحروب وصون الأمن والسلم الدوليين.

يوصلنا الحديث هنا إلى النظام الديموقراطي اللبناني. من حيث المبدأ، كما قلنا في البداية، تُتخذ القرارات السياسية في السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (مجلس الوزراء) بالأغلبية المطلقة إلا في بعض الأمور المحدودة والمحددة دستورياً التي تعتبر ذات أهمية خاصة. ولكن النظام السياسي اللبناني ابتدع، مع الوقت، وبشكل متزايد، أعرافا أعطت لكل مكوّن سياسي (يمثل أي طائفة أو مذهب، أو قسم وازن من أي منهما) حق الفيتو فيما يتعلق بالغالبية الكبرى من القرارات، ما شكل منظومة فيتو متعددة الطبقات وخطوط دفاع متتالية ضد نظام الأكثرية.

خط الدفاع الأول هو "الديموقراطية التوافقية" التي أصبح مفهومها أن أي قرار سياسي يجب أن يحصل بالتوافق بين جميع المكونات، أي أن يتخذ بالإجماع بينها. هذا المفهوم للديموقراطية التوافقية هو ابتكار لبناني وليس المفهوم العلمي لمبدأ ما يسمى بالـ "
Consensual Democracy" في العلوم السياسية. فالمبدأ الأخير لا يقلل من أهمية نظام الأكثرية بل يتطلب من الأفرقاء محاولة التوافق والتركيز على إيجاد أرضية مشتركة للأمور قبل اتخاذ القرارات المهمة، بالأكثرية المطلقة عندما تدعو الحاجة. المفهوم اللبناني للديموقراطية التوافقية تسبب في شلل في كثير من مجالات مهمة لانتظام عمل الدولة، على سبيل المثال، الارقام القياسية للوقت المطلوب لانتخاب رئيس للجمهورية (سنتين وأربعة أشهر لانتخاب الرئيس ميشال عون سنة 2016 وقد مضى حاليا أكثر من سنة ولم ينتخب رئيس جمهورية بعد، رغم الحرب القائمة في جنوب لبنان، وكذلك في تأليف الحكومات الذي تطلب، في المتوسط، 111 يوماً بين 2005 و2022 (جريدة الأوريان 22 حزيران 2022)، مع احتفاظ الرئيس تمام سلام بالرقم القياسي (348 يوماً).
في حال تم اختراق خط الدفاع الأول هناك خط دفاع ثان وهو مبدأ "الميثاقية." تطور مبدأ الميثاقية في لبنان حتى اصبح يتمثل في إعطاء كل المكوّنات حق الفيتو على أي قرار سياسي تتخذه باقي المكونات. فيتو الميثاقية أصبح يستعمل مثلاً في كل التعيينات في الدولة، ليس فقط بالنسبة للفئة الأولى، بل وصولاً إلى الفئة الرابعة، ما نتج عنه فراغات في معظم الوظائف، من القضاة حتى حراس الغابات، ما راكم الدعاوى الباقية دون بت، والحرائق في الغابات دون رقيب.

رغم هذين الدرعين الواقيين، إضافة الى ما يوفره الدستور، هناك دائماً من يطالب بـ"الثلث المعطل،" في الحكومات، والذي أصبح جزأً لا يتجزأ من المشاورات التي تحصل في عملية تأليفها، والمطالبة به تأتي من كل المكونات حسب الحاجة لطمأنتها، أو لأسباب أخرى، من خلال إعطائها الإمكانية الإضافية لاستعمال الفيتو. وعلى كل حال، يستطيع أي مكون إسقاط الحكومة بمجرد الاستقالة منها (كما حصل سنة 2006 مثلاً) تحت راية الميثاقية، ما يعيدنا إلى خط الدفاع الأول.

وإذا لم تنجح كل هذه الدروع الواقية، فليس على أصحاب العلاقة إلا اتهام الآخرين بنسف "العيش المشترك" وتعريض البلاد إلى حرب أهلية.

في كتابه "النظام السياسي والإنحطاط السياسي" صاغ المفكر السياسي ألاميركي فرنسيس فوكوياما كلمة "فيتوكراسي" (
Vitocracy) لوصف الحالات حيث يميل فيها النظام الديموقراطي نحو المبالغة في استعمال حق الفيتو. وينبه فوكوياما أن النظام الأميركي أصبح يحتوي بشكل متزايد نقاطا فيتوكراسية (vitocracy points) في مجال اتخاذ القرارات حيث يُبالَغ في استعمال حق النقض.

أصبحت الديموقراطية اللينانية فيتوكراسي من النوع المتشدد، حيث الفيتو هو الأساس والأغلبية المطلقة هي الإستثناء في اتخاذ القرارات، وحيث أصبح اتخاذ القرار السياسي في الجمهورية يشبه نظيره في مجلس الأمن، إذ تستطيع أية مجموعة سياسية وازنة أن تعطل اتخاذ أي قرار، بينما لا تستطيع الأغلبية اتخاذه. وكما هو الحال في مجلس الأمن، تبقى الدولة غير قادرة، في معظم الأحيان، على اتخاذ القرارات، حتى االروتينية منها، والتي تؤمن الحد الأدنى من متطلبات إدارة الدولة وشؤونها الداخلية، أو تسمح بصياغة سياسة خارجية راشدة.

 

*سفير لبنان في الولايات المتحدة سابقا

 

https://www.annahar.com/arabic/makalat/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/295816/%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AA%D9%88

 

Tuesday, May 30, 2023

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

  


النهار

09-05-2023

 

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

رياض طبارة[1]

 

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في أوائل سنة 1990، دخلت روسيا في سبات عميق لعشر سنوات. عند الانهيار كان فلاديمير بوتين يعمل، منذ خمس سنوات، أي طيلة عهد ميخائيل غورباتشوف، كضابط في الـ كي جي بي، جهاز الاستخبارات السوفياتي، في ألمانيا الشرقية، حيث كانت مهمته الروتينية تجنيد وتنظيم عملاء للمخابرات في منطقة عمله. انهار حائط برلين وعمت التظاهرات شوارع مدينة درسدن حيث كان مكتبه، ودخل الناشطون الى مكاتب مخابرات المانيا الشرقية، ستازي، المقابلة لمكاتب الـ كي جي بي، فأتصل بوتين هاتفياً بفصيل الدبابات السوفياتي العامل في المدينة طالباً الحماية، فجاءه الجواب بأن الفصيل لا يستطيع التحرك دون أوامر من موسكو. وأضاف محدثه: "وموسكو صامتة." خرج الضابط بوتين لملاقات المنتفضين وقال لهم، بحسب أحدهم: "لا تدخلوا المبنى.الرفاق في الداخل مسلحون ولديهم تعليمات باستعمال سلاحهم  عند الضرورة." اقتنعت المجموعة المنتفضة وغادرت المكان. عاد بوتين الى الداخل وبدأ ورفاقة حرق الملفات السرية. "لقد حرقنا كمية هائلة من الأشياء حتى انفجر الفرن،" قال بوتين لاحقا.

"موسكو صامتة." كلمتان أثرتا بالضابط الشاب، البالغ من العمر 37 سنة، أكثر من أية كلمات أخرى، كما يجمع عليه مؤرخوا هذه الحقبة. كان لما حدث له في درسدن خلال خدمته هناك أثر كبير في تركيبة شخصيته.

عاد بوتين من درسدن إلى بطرسبرغ ، مسقط راسه، في أوائل التسعينات غاضباً على ما آلت إليه الأمور في بلاده ومصمماً على الوصول الى موقع يخوّله إعادة بنائها، ولكن هذه المرة موسكو لن تكون صامتة. كان النموذج الأول في فكره هو الإتحاد السوفياتي وعظمته. كان كالكثيرين من الروس معجب بلينين وعودته المظفرة الى بطرسبرغ لقيادة الثورة الشيوعية، كما فعل هو من درسدن. حتى وحشية لينين (وستالين من بعده) في تعامله مع الرفاق ونزعته التوسعية لم تزعجا بوتين بل زادتاه إعجابا. أضف الى ذلك العلاقة التاريخية التي ربطتهما، إذ كان سبيريدون بوتين، جد فلاديمير، الطاهي الخاص للينين (ومن بعده ستالين). ولكن رغم ذلك لم يكن الاتحاد السوفياتي هو نموذجه المفضل في تاريخ روسيا بل العهود القيصرية وخاصة عهد القيصر بطرس الكبير الذي أسس الإمبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر. ففي تصريح له سنة 2016 ، بعد أيام من الاحتفال بذكرى وفاة لينين، قال بوتين إن قتل القيصر نقولا الثاني وأسرته، وخدمه، وألاف من الكهنة، وضعت قنبلة موقوتة تحت الدولة الروسية.  

ولكن شخصية بوتين لا تُختصرفقط بإعجابه للحقبة الشيوعية، أو حتى بتعطشه للامبراطورية الروسية، دون التطرق بشكل أساسي لتأثره بفلسفة صديقه الكسندر دوغين، الملقب بـ "عقل بوتين."  ثلاث أفكار لدوغين هي الأهم في هذا السياق. ألفكرة ألاولى هي التي طرحها دوغين في كتابه "النظرية السياسية الرابعة" والتي يرفض فيها الديموقراطية الليبرالية التي ترتكز على الفردية (individualism)، والشيوعية التي ترتكز على الطبقية (class)، والفاشية التي تضع الوطن فوق الجميع. بالمقابل، فالنظرية  السياسية الرابعة، التي أسماها دوغين "الثورة المحافظة" (revolutionary conservatism)، فتؤمن بالتعددية في إطار عالم أخلاقي، يحترم  التقاليد، وحرمة العائلة، وقداسة الأديان. ألنظام السياسي الذي يجب أن يحكم هذا المجتمع هو النظام "الديموقراطي أللاليبرالي" (Illiberal democracy) أي نظام ديموقراطي في مؤسساته كالإنتخابات، ولكن قوي بقيادته التي قد تتجاوز الدستور والقوانين عند الحاجة، ما قد يشبّهه البعض بديموقراطية المستبد العادل. فيكتور أوربان، الرئيس المجري المعروف بمساندته للنظام "اللاليبرالي" يعتبر أن الأمثلة على دول نجحت فيها الديموقراطية اللاليبرالية هي روسيا (بقيادة بوتين) وسنغافورة وتركيا والصين، بالإضافة طبعاُ الى بلده المجر، ولو ان البعض من هذه الدول قد لا يُعتبر ديموقراطياً حسب قوله.

الفكرة الثانية لدوغين في السياق نفسه هي ما يسمى "الاوراسية الجديدة." وتتلخص هذه النظرية الجيوسياسية بضرورة إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية التاريخية وضم دول أوروبا الشرقية إليها وصولا الى دول البلقان الاورثذكسية كخطوة أولى. ويركز دوغين في هذا المجال على ضرورة ضم جورجيا  لروسيا وشبه جزيرة القرم وكل أوكرانيا التي تصبح قسماً مما سماه دوغين "روسيا الجديدة" (Novorossia).الخطوة الثانية هي تأسيس الـ "الحلف الاوراسي،" أي حلف سياسي عسكري، يضم الهند والصين ومنشوريا وصولاً الى المحيط الأطلسي، يتحالف مع دول إسلامية، مستبعداً داعش التي يعتبرها أداة أميركية، وكذلك إسرائيل. "الحلف الأوراسي،" برأي دوغين، هو التجمع الوحيد الذي يستطيع الوقوف بوجه التجمعات الغربية، خاصة حلف الناتو، وأن يشكل القطب الثاني في الجيوسياسية العالمية.

الفكرة الثالثة لدوغين في هذا المجال هي ضرورة العمل على تفكيك الاتحادات الغربية، على رأسها الاتحاد الأوروبي، وإضعاف حلف الأطلسي.

سياسة بوتين الخارجية هي، الى حد كبير، انعكاس مباشر لافكار دوغين. الكثير من خطبه مقتبسة، بعضها حرفياً، من كتابات دوغين بما في ذلك تعبير "روسيا الجديدة". كتاب دوغين "أسُس الجغرافيا السياسية" (Foundations of Geopolitics)، الذي يشرح فيه بالتفصيل أفكاره حول الاتحاد الاوراسي وضرورة تفكيك الاتحادات الغربية، بخاصة حلف الناتو، هو أحد المراجع الرئيسية الرسمية في برنامج تدريب الجيش الروسي وعقيدته القتالية.

 عمل بوتين منذ استلامه الحكم على إضعاف الاتحاد الأوروبي ومن ورائه حلف الناتو. عدة مصادر تؤكد أن روسيا دعمت بأشكال مختلفة أنصار خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي (بركزيت). كما تدعم الحركات اليمينية والانفصالية في دول أوربية عدة، منها حزب الحرية في النمسا، وحزب الليغا في إيطاليا، وحزب  التجمع الوطني (لوبين) في فرنسا.

وفي أول سنة 2015، أعلنت خمس دول (روسيا، أرمينيا، بيلاروس، كازاخستات وقيرغيزستان وبحضور مراقبين عن أوزبكيستان وكوبا) "الاتحاد الأوراسي،" على نسق الاتحاد الأوروبي. ورغم تأكيد بوتين في الاجتماع أن هذا الاتحاد ليس سوى اتحاد إقتصادي، أصر مندوب كزاخستان على زيادة التأكيد، لمنع أي لبس، بأن الاتحاد هو ذات منافع إقتصادية فقط وأضاف: "إننا لا نتدخل بما تفعله روسيا سياسيا وهم لا يستطيعون أن يقولوا لنا أي سياسة خارجية سنتبعها."

سلسلة من التوسعات الروسية داخل أوروبا كان دعى إليها دوغين حصلت بدأً من 2008 وحرب الخمسة أيام بين روسيا وجورجيا التي انتهت باحتلال روسيا لجنوب أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا (يومها لام دوغين بوتين لانه لم يحتل العاصمة تبليسي) . في شباط سنة 2014 نجحت الثورة البرتقالية في أوكرانيا وتم الانقلاب في شباط على الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بقرار برلماني مشكوك بدستوريته. وفي آذار احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها اليها. وفي الوقت نفسه بدأت انتفاضة الاثنيين الروس في مقاطعتي دونتسك ولوهانسك شرق أوكرانيا (منطقة الدونباس) بدعم روسي.

كانت حجة الروس أن كل ما حصل هو ليس توسعياُ بل عملية "تعديل في الحدود،" لأن انهيار الاتحاد السوفياتي، كما قال بوتين، كانت من نتائجه أن ملايين الروس وجدوا انفسهم خارج وطنهم الأم "ما شكّل مأساة إنسانية كبيرة."  فسكان جنوب أوسيتيا وأبخازيا أكثريتهم الساحقة من الإثنية الروسية. شبه جزيرة القرم هي تاريخياً قسم من الإمبراطورية الروسية ومن ثم الاتحاد السوفياتي "أهداها" خروتشيف لأوكرانيا سنة 1954 لأسباب سياسية منها صراعه مع مالينكوف على السلطة. ومنطقة الدونباس شرق أوكرانيا يقطنها روس أعلنوا استقلالهم من أوكرانيا بعد استفتاء أظهر أن الأغلبية الكبرى تريد الانفصال.

كانت سياسة أوروبا تجاه روسيا البوتينية إيجابية منذ البداية وكان جوهرها إدماج الاقتصاد الروسي بالأوروبي. بقيت كذلك حتى بعد التجاوزات الروسية المذكورة ورغم بعض العقوبات الأميركية الأوروبية الخجولة، التي فرضتها أوروبا وأميركا على روسيا. وكان هناك مجموعة كبيرة في الكرملين تتخوف من أفكار دوغين وتنبه بأنها ستجر روسيا الى العزلة. حتى أن كثر في الإعلام اليوم يعتبرون أن محاولة إغتياله في آب الماضي، التي أودت بحياة ابنته، داريا دوغينا، خطأً، كانت من قبل هذه المجموعة ومسانديها.

تغيرت نظرة الغرب التسامحية تجاه روسيا بعد الغزو الروسي لاوكرانيا في شباط  2022، إذ كان من الواضح أن الهجوم على العاصمة كييف، ومحاولة تغيير النظام في أوكرانيا لصالح روسيا، لم يكن تحركاً من نوع "تعديل الحدود" بل كان ذات أبعاد توسعية. ففي سنة 1997 كتب دوغين: "إن استقلالية أوكرانيا تشكل خطراً ضخماً لأوراسيا. يجب أن تصبح مقاطعة تابعة للإدارة المركزية الروسية." هذه الفكرة كانت موجودة في الأدبيات الروسية قبل بوتين، ولكن هذه المرة أصبحت رسمية إذ تبناها بوتين "بشكل كامل" بحسب النيويورك تايمز (22 آذار 2022). ففي سنة 2013 قال بوتين "إن أوراسيا هي منطقة جيوسياسية رئيسية في العالم،" حيث سيتم فيها الدفاع عن الـ "كود الجيني" الروسي وعن الإثنيات الأخرى، ضد "الليبرالية الغربية المتطرفة."

انقلبت سياسة أوروبا الإندماجية تجاه روسيا، بشكل سريع ومستدام، مباشرة بعد غزو أوكرانيا وتحولت الى سياسة انفصالية كاملة تستعيد ذكرى الحرب الباردة. وتحولت الحرب الأوكرانية بالنسبة للغرب من حرب دفاعية عن بلد أوروبي، الى حرب "استباقية" ضد فكرة توسعية أكبر من ذلك بكثير. لذا سارع حلف الناتو لتحريك قواته شرقاً، خاصة الى دول البلطيق وبولندا بطلب منها، كما سارع الى قبول فنلندا في الحلف وهو يعمل اليوم على ضم الأسوج وجورجيا ولربما أوكرانيا نفسها اليه. وبسرعة غير مسبوقة، أحاطت أوروبا بغرب روسيا إحاطة كاملة. وفي هذا السياق، قال لويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي في آذار 2022، أي بعد شهر واحد من بدء الحرب الأوكرانية، "نريد إضعاف روسيا إلى حد لا يسمح لها بفعل هذا النوع من الأشياء كما فعلت في غزو أوكرانيا." وشرح أن هذا يعني ألا نسمح لروسيا أن تستعيد قدرتها سريعاً لإعادة إنتاج القوات والمعدات التي خسرتها في أوكرانيا.

الحرب الروسية الأوكرانية لم تعد حرباً ضد انفصاليين روس في دونيتسك ولوهانسك، كما كانت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، بل تحولت الى صراع على الهيمنة الجيوسياسية بين قطبين، له خلفيته الفكرية وأبعاده الدولية. مواجهة تشبه تلك القائمة حالياً بين أميركا والصين، ولكنها أكثر تعقيداً.


[1]  سفير لبنان لدى واشنطن سابقاً.