Tuesday, November 1, 2022

المفاوضات النووية الاميركية الايرانية The American Iranian Nuclear Negotiations

فرح

الثلاثاء 01 تشرين الثاني 2022

كيف فشلت المفاوضات النووية بين أميركا وإيران

د. رياض طبارة

وقّع الرئيس باراك أوباما الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس زائد واحد (فرنسا، إنجلترا، روسيا، الصين وأميركا زائد ألمانيا)، بعد عرضه على الكونغرس، في أيار 2015، أي ستة أشهر فقط قبل انتخاب خليفته دونالد ترامب. نال هذا الاتفاق أصوات الأغلبية الساحقة في مجلسي الكونغرس (400 إلى 25 في مجلس النواب و98 إلى واحد في مجلس الشيوخ) في عرض نادر من التوافق بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي. رغم ذلك، انسحب ترامب من الاتفاق في أيار 2016 أي بعد أربعة أشهر من توليه سدة الرئاسة.

عدى عن كرهه العميق لأوباما، اعتبر ترامب أن الإتفاق غير كامل لأسباب ثلاثة. أولاً أن مفعوله ينتهي سنة 2030 (Sunset Clause) بعدها إما التفاوض على اتفاق جديد وإما تطلق حرية إيران في المجال النووي. ثانياً أن الاتفاق الذي وصلت إليه مجموعة الـ 5+1 لا ينظم برنامج الصواريخ الإيراني المتقدم والذي يهدد جيرانها، لا سيما إسرائيل. ثالثاً أن الاتفاق لا يشمل علاقة إيران بدول الجوار خاصة بالنسبة للميليشيات المتحالفة معها، كالحوثيين والحشد الشعبي وخاصة حزب الله الذي له امتدادات جغرافية تهدد عدة دول في المنطقة في آن واحد، وتشكل قوة ضاربة على حدود إسرائيل. كانت نية ترامب جلب إيران إلى طاولة المفاوضات بعد انهاكها بـ "عقوبات قصوى" شملت في النهاية البنك المركزي الإيراني والحرس الثوري ورئيسه المرشد الأعلى علي خامنئي، ولكنه لم يفلح بذلك.

مباشرة بعد وصوله إلى سدة الرئاسة، حاول جو بايدن إعادة الولايات المتحدة إلى الإتفاق النووي ولكنه واجه بعض الصعوبات التي جعلت المفاوضات غير المباشرة بين أميركا وإيران، حول عودة أميركا إلى الاتفاق، تأخذ وقتاً طويلأً. الجهتان اعتقدتا أن الوقت لم يكن داهما إلى أن بدأت حرب أوكرانيا في شباط الماضي وبدأت معها أزمة المحروقات الأوروبية والعالمية.

بالنسبة للأميركيين، ومن ورائهم شركائهم الأوربيين، اصبحت أهمية الاتفاق مع إيران تتعدى النووي إلى حدود ما تستطيع إيران أن تقدمه في مجال الطاقة، إذ أصبحت إحدى أولويات الغرب الملحًة خفض نسبة التضخم التي بلغت مستويات لم تعرفها أميركا وأوروبا منذ أكثر من أربعين عاماً والتي أحد أسبابها الرئيسية ارتفاع أسعار الغاز والبترول مشتقاتهما. وبالنسبة للإيرانيين من جهة أخرى، بدأ ترف الوقت يتهاوى كلما أقترب موعد الانتخابات النصفية الأميركية وارتفعت إمكانية نجاح الجمهوريين فيها، وبالتالي إمكانية سيطرت ترامب وأتباعه على مجلسي الكونغرس. مسودة الاتفاق النووي التي كانت موضوعة على الطاولة في حينه تسمح لإيران بتصدير 50 مليون برميل يوميا مقارنة بأقل من 3 ملاينن حاليا، ما يساعد على مواجهة مشكلة الطاقة المستجدة عالمياً وينفع بالتالي الجهتين بالوقت نفسه. ولذا وضع الفريقان خلافاتهما المتبقية جانباً واندفعا إلى الوصول إلى تفاهم يعيد أميركا إلى الاتفاق.

الجو المتفائل بالنسبة للمفاوضات النووية أخذ زخماً كبيراً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فرغم التعثرات التي شهدتها المحادثات الأميركية الإيرانية غير المباشرة في تلك المدة، وصلت الأمور إلى مستويات متقدمة في أوائل آب 2022 عندما أعلن الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيف بوريل، أنه قدم للفرقاء المعنيين "مسودة أخيرة" للاتفاق النهائي قائلاً: ما يمكن التفاوض حوله تم التفاوض فيه." ففي الأسبوع الأول من أيلول وصل التفاؤل ألى أعلى درجاته، وارتفع معه سعر صرف الريال الإيراني 15 بالمئة بأسبوع واحد، وعاد الكلام عن اتفاق نهائي "خلال أسابيع، بل أيام."

في كل هذه الأثناء كان هناك نقاش حاد في إسرائيل حول ما يجب القيام به لوقف الاتفاق: الاكتفاء بالتهديد بإمكان اتخاذ إجراءات أحادية إسرائيلية ضد إيران لحث أميركا على التروي، ما كان يحبذه رئيس الوزراء يائير لابيد، أم مواجهة الزخم الأميركي لإبرام الصفقة مواجهة مباشرة، وهو ما كان ينادي به رئيس المخابرات الإسرائيلية (الموساد) دايفيد بارنيا. في أواخر تموز رجحت كف بارنيا وحزمت إسرائيل أمرها لاستعمال كل قواها السياسية في أميركا لغرض إنهاء المحادثات الأميركية الإيرانية حول الاتفاق، دون التخلي طبعاً عن خيار التهديدات.

أول الوافدين إلى واشنطن من إسرائيل لهذا الغرض كان مستشار الأمن القومي، إيال هلاتا، في 23 آب. كان هلاتا يأمل بلقاء وزير الخارجية الأميركي طوني بلينكن الذي يقال أنه كان مستاءً من التدخل الإسرائيلي لدرجة أنه حول لقاء هلاتا معه إلى لقاء مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. تبعه بعد أيام رئيس الموساد بارنيا ثم وزير الخارجية بني غانتز وكرت السبحة لتشمل لقاءات رفيعة، ليس فقط في أميركا بل أيضاً مع القيادات في ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الدول المعنية والفاعلة.

في الوقت نفسه، جيّشت إسرائيل اللوبي الإسرائيلي الأميركي، بخاصة إيباك، بشكل قل أن يسبقه مثيل، للاتصال بأعضاء الكونغرس للضغط على الإدارة الأميركية، إضافة إلى ضغوط إسرائيل المباشرة، واستعملت الإعلام الأميركي بشكل مكثف من خلال نشرات الأخبار والمقابلات وغيرها. حرك اللوبي قاعدته، بما في ذلك الحاخامات، ومن بينهم أكثر الحاخامات شعبية والمعروف عالمياً، جاكوب شمويل بوتيتش، الذي أعلن، في مقابلة مع تلفزيون فوكس المحافظ، إن بايدن على وشك توقيع اتفاق مع حكومة إيران " الهمجية المتوحشة" و"الأكبر داعم للإرهاب في العالم" والتي "جندت شاب من نيو جورزي لكي يطعن سلمان رشدي بالسكين في ولاية نيويورك."

أما الحجة السياسية الرئيسية التي استعملتها إسرائيل واللوبي الإسرائيلي في حملتهما الأميركية كانت التذكير المتكرر بالشروط التي كان قد وضعها ترامب لإعادة التفاوض مع إيران: أن الاتفاق يجب أن يصبح دائما، وأن يشمل البرنامج الصاروخي الإيراني ويشمل بالأخص حل الميليشيات المتحالفة مع إيران، بخاصة حزب الله الكامن على حدودها. ولكن الحل المفضل لدى القيادات السياسية الإسرائيلية، وخاصة المعارضة التي يرأسها قائد الليكود بنجامين نتانياهو، كان بالحقيقة جر أميركا إلى ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، رغم علمهم بأن هذا لن يتحقق إلا ربما إذا وصلت إيران إلى حافة إنتاج قنبلة نووية.

على كل حال، ربحت إسرائيل هذه الجولة مع أميركا بالرغم من معارضة كبيرة من قبل قياديين في الإدارة الأميركية، خاصة في وزارة الخارجية. أما بالنسبة للكونغرس فاستطاع اللوبي أن يجند نواب من الحزبين، 34 من الديموقراطيين و16 من الجمهوريين، للتوقيع على رسالة مؤرخة في أول أيلول 2022 موجهة إلى بايدن يطلبون منه عرض أي مسودة اتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي قبل توقيعه معربين عن قلقهم من أن الاتفاق قد يميّع العقوبات المتعلقة بالإرهاب المفروضة على الحرس الثوري الإيراني.

مؤخراً برزت قضية اتهام الغرب لإيران تزويد روسيا بطائرات بدون طيار (مسيّرات) وأسلحة أخرى وعتاد وصولاً إلى اتهامها بإرسال مقاتلين إلى شبه جزيرة القرم يقومون بتدريب الروس على استعمال المسيرات. هذه الاتهامات، رغم إنكار إيران لها، أطلقت سيلا من العقوبات الأوروبية والأميركية الجديدة على إيران، ما جعل الاتفاق النووي، وعودة أميركا إليه، يغيبان عن الرؤيا إلى أجل غير مسمى.

https://farah.kamaljoumblatt.com/articles/5493

 

Tuesday, July 5, 2022

Israel's uraveling myths shaking US support

Israel’s Unraveling Myths Are Shaking American Support[1]

Dr. Riad Tabbarah

Israel is not a state of all its citizens… [but rather] the nation-state of the Jewish people and only them.              

Benjamin Netanyahu, March 2019 (then Prime Minister of Israel).

 

One of the unraveling myths that Israel has weaved around itself is that it is a democracy.

The unraveling came gradually and slowly in the face of a stiff and effective official Israeli propaganda, supported by well-endowed pro-Zionist institutions in western countries. But slogans used by this propaganda machine fell one after another. “Land without a people [Palestine] for a people without a land [the Jews]” was one of the earliest of the slogans used effectively by early Zionist leaders, decades before the creation of Israel in 1948. According to this slogan, Palestine was inhabited by a few farmers and roaming Bedouins and the Jewish people would make the desert bloom there and establish a democratic state that will constitute a bridge between east and west. It took millions of Palestinian refugees, caused by the creation of Israel, and several decades, before this slogan died out. The country that was created was the antithesis of democracy, an apartheid state.

That the Israeli system of government is apartheid has been recognized for some time now, even by western scholars and rights organizations. One classic primer on the subject was published in 2009 under the title: “Israeli Apartheid: A beginner’s Guide.” In the central part of the book the author, Ben White, defined the main areas of Israeli apartheid and its contradiction with the Israeli claim of a “democratic state.” A wide literature on the same theme preceded and followed this book.

Last year, Human Rights Watch (HRW) came out with the same apartheid verdict. Its well-documented report, published in April under the title “A threshold Crossed,” was based on research, documentation and field observations of HRW and other rights organizations. It concluded “that the Israeli government has demonstrated an intent to maintain the domination of Jewish Israelis over Palestinians across Israel and the OPT [Occupied Palestinian Territories]. In the OPT, including East Jerusalem, that intent has been coupled with systematic oppression of Palestinians and inhumane acts committed against them. When these three elements occur together, the report concluded, they amount to the crime of apartheid.

Earlier this year, Amnesty International came out with a similar report entitled “Israel’s Apartheid Against Palestinians: A Look into Decades of Oppression and Domination.” After detailing the Apartheid practices of the Israeli government, almost since Israel’s inception, the report asks: “Apartheid is not acceptable anywhere in the world. So why has the world accepted it against Palestinians?”

 

Perhaps the most damning report in this context is the one issued last year by the leading Israeli rights organization, B’Tselem. The report showed that discrimination against Palestinians included, among other things, expropriation of land, denial of citizenship, restriction of movement and limitation of political participation. “B’Tselem reached the conclusion that the bar for defining the Israeli regime as an apartheid regime has been met.” It thus confirmed a statement made a few months earlier by the same organization describing the Israeli system of government: “A regime of Jewish supremacy from the Jordan River to the Mediterranean Sea: This is apartheid.”

This consensus of leading rights organizations, international and Israeli, finally reached the United Nations and was echoed in a report last March by the special Rapporteur for the United Nations International Human Rights Organization that confirmed the apartheid situation prevailing in the occupied area of Palestine. The Rapporteur noted that during the last 40 years hundreds of General Assembly and Security Council resolutions indicated that Israel’s annexation of occupied territory was unlawful but no accountability had ever followed. “If the international community had truly acted on its resolutions 40 or 30 years ago,” he added, “we would not be talking about apartheid today.”

 

It has taken time for these facts to be translated into a change in American (and Western) public opinion towards Israel, but some change has become clear lately, even among the American Jewish population, the mainstay, and most crucial support group, of Israel. A survey of Jewish voters in the United States, commissioned last July by the Jewish Electorate Institute, a group of prominent Jewish U.S. Democrats, and published in the Times of Israel, showed that 25% of the respondents thought that Israel is an “apartheid State”, 22% believed that Israel is “committing genocide” against the Palestinians and 9% of these Jewish voters believed that Israel “has no right to exist.” More meaningfully, these proportions are significantly higher among the younger Jewish voters: 35% thought Israel is an apartheid State, 33% that it is committing genocide and a full 20% that it has no right to exist. The fact that the younger Jewish voters are much less supportive of Israel than the old ones indicates that the process of detachment of American Jews from Israel might well be a long tern phenomenon.

This is important because it affects the attitude towards Israel in the U.S. Congress. Official assistance to Israel approved by Congress has lately amounted to $3.8 billion, practically all in the form of grants to the Israel military. The real amount officially transferred to Israel surpasses this number and is often placed under benevolent contributions to such entities as “the United Israel Appeal” which is passed on to the “Jewish Agency.” Add to this the tens of millions of dollars contributed by private American individuals and institutions as “tax-deductible gifts for Jewish settlements in the West Bank and East Jerusalem.”

“In Washington, support for the Palestinian plight is getting louder in Congress,” reported the Washington Post last year. After Gaza-Israel war of May 2021, Senator Bernie Sanders wrote an op ed in the New York Times detailing the miserable life of Palestinians under Israeli blockade and occupation. Many Democratic lawmakers joined in the condemnation of the brutality of Israeli attacks on Gaza, including some who were traditionally pro-Israel. Some lawmakers openly accused Israel of apartheid, echoing the consensus of major rights organizations. “In another era,” reported the Washington Post at the time, “Sanders would have cut a lonely figure among his colleagues.”

This is not to say, of course, that American support for Israel has been upended. Far from that. America is still the unconditional protector of Israel.  Its support is not only financial but also diplomatic. The U.S. has used its veto power in the UN Security Council 14 times since 2000, 12 of which were to protect Israel from censure. This is not counting of course the many draft resolutions the US stopped from getting to the floor of the Council for voting. But while American support for Israel remains strong, it has certainly been shaken lately, and the change that is happening in this regard is basic and long term.



[1] Published in the periodical Farah, June 2022

 

Tuesday, May 10, 2022

نهاية الحرب الروسية على أوكرانيا The End of Ukraine War

 



 

10-05-2022

كيف ستنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا: عِبَرٌ من التاريخ

رياض طبارة[1]

يشبّه البعض الحالة الروسية الأوكرانية بتلك التي كانت قائمة بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية الثانية. فكما كانت ألمانيا تحت الحكم النازي تريد إستعادة الأراضي التي انتُزعت منها بعد الحرب العالمية الأولى، بدأً بتشيكوسلوفاكيا، تريد روسيا اليوم استعادة ما خسرته خلال سنين الإنهيار بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، بدأً بأوكرانيا. أعلن هتلر سنة 1938 بأنه ينوي تحرير السوديتنلاند في شمال تشيكوسلوفاكيا الذي كانت تقطنه غالبية ناطقة بالالمانية، كما أعلن بوتين شباط الماضي استقلال مقاطعتي دونيتسك ولوهنسك، أي منطقة دونباس شرق أوكرانيا التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية. ولكن بدلاً من مواجهة هتلر وافقت الدول الفاعلة في أورويا يومها (إنجلترا، فرنسا وإيطاليا) على ضم السوديتنلاند لألمانيا وأجتمعت قاياداتها مع هتلر في ميونيخ في أيلول 1938 ووقّعت على هذا التنازل. عندها عاد تشامبرلن، رئيس وزاراء إنجلترا، إلى لندن منتصراً، وتوجه إلى الشعب الإنجليزي بالقول: أصدقائي، أعتقد أن السلام سيعم في وقتنا هذا. أنصحكم بأن تعودوا الى منازلكم وأن تناموا بارتياح في تخوتكم." ولكن بعد ستة أشهر استولى هتلر على كامل تشيكوسلوفاكيا، وبعدها بأقل من ستة أشهر، أي في أول أيلول سنة 1939، غزا هتلر بولندا وبدأت الحرب العالمية الثانية. 

يستخلص عارضوا هذا التوازي التاريخي بأن تهدئة بوتين اليوم قد تشجعه على محاولة استعادة كل جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة، التي تشمل دولاً أعضاء في تحالف الناتو، مما قد يسبب حرباً عالمية ثالثة. فبوتين قد احتل بعضاً من جورجيا (أبخازيا وجنوب أوسيتيا)، وأعلن استقلالهما سنة 2008  ثم استولى على شبه جزيرة القرم الأوكرانية سنة 2014 وقام بمساندة حرب انفصالية في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، ولم يواجه أية ردة فعل قوية أو حاسمة من دول الغرب، ما شجعه على غزو أوكرانيا بكاملها بحسب وجهة النظر هذه. ولكن الرد الحاسم من غرب موحد هذه المرة، بشكل مساعدات عسكرية واقتصادية، أتى ليغرقه في أوحال كرواتيا ما سيضع حدا لطموحاته التوسعية. أما إمكانية أن تُنتج هذه المواجهة حرباً عالميةً ثالثة، خاصة بعد أن حركت روسيا انظمتها النووية ونبّه بوتين ووزير خارجيته مراراً من خطرها، فيعتقد أصحاب هذه النظرية أنها مستبعدة، ولو انها ليست مستحيلة.

من أجل تقييم مسار الحرب الروسية الأوكرانية لا بد من العودة إلى التاريخ الروسي ذاته. فمنذ تأسست الإمبراطورية الروسية بقيادة بطرس الكبيرسنة 1721 لم يتغير نظام الحكم فيها سوى مرتين، كلاهما بعد حربين فاشلتين. الأولى كانت حرب السنتين مع الأمبراطورية اليابانية التي خسرتها روسيا وانتهت سنة 1905 بمعاهدة بورتسموث (مدينة أميركية) برعاية الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت والتي اعتُبرت مُذلة للقيصر نقولا الثاني وللإمبراطورية الروسية بشكل عام. هذه الحرب الفاشلة كانت الشرارة التي أججت نار الثورة الروسية تلك السنة وأطلقت سلسلة أحداث انتهت سنة 1917 بسقوط النظام الملكي القيصري، بعد حكم دام قرنين، واستبداله بالنظام الشيوعي.. الحرب الفاشلة الثانية كانت حرب أفغانستان التي دامت تسع سنوات وانتهت  في شباط 1989 بانسحاب مُذل للجيش السوفياتي. هذه الحرب شكلت الشرارة التي أودت بالنظام الشيوعي المتداعي سنة 1991 لصالح النظام الأوليغارشي الذي يحكمه فلاديمير بوتين منذ سنة 2000. لا شك أن بوتين، وهو لربما الرئيس الروسي الأكثر حساسية للتاريخ منذ لنين، أخذ العبرة من هاتين الحربين الفاشلتين وهي أن الفشل في حربه على أوكرانيا قد يتسبب بتغيير في النظام الروسي، اقله في رئاسة النظام، كما حصل في الماضي.

بالنسبة لبوتين سبب الحرب مع أوكرانيا هو، بالدرجة الأولى الأمن القومي الروسي. فخلال العقد الفاصل بين انهيار الإتحاد السوفياتي ومجيئ بوتين للحكم، اعتنم الغرب الفرصة لتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل دول أوروبا الشرقية ودول البلقان. بيلاروسيا وأوكرانيا أصبحتا خط الدفاع الأول لروسيا في مواجهة الناتو ولذلك أصر بوتين على أن يكون النظامان فيهما مواليان لروسيا بشكل مطلق. في سنة 2014 حصل انقلاب دستوري في أوكرانيا أطاح برئيسها، فيكتور يانكوفيتس، الذي هرب إلى روسيا. بعد بضع سنوات من الفوضى وصل فولوديمير ليزنسكي إلى الحكم وطلب الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي والناتو. خسارة أوكرانيا يضع الناتوعلى بعد أقل من مئتي كيلومتر من العاصمة موسكو.

عبَرُ التاريخ وطبيعة بوتين تجعل من شبه المستحيل أن يقبل بوتين يسحب جيشه من أوكرانيا مذلولاً، كما حصل في حربي اليابان وأفغانستان، دون أن يحقق هذفه من غزو أوكرانيا، ليقدمه كـ "انتصار" لشعبه.

 ولكن هدف بوتين من الحرب مع أوكرانياً هدف متحرك  يسمح بالـ"إنتصار" في حالات عدة. عندما بدأت الحرب كان هدف بوتين احتلال كييف خلال بضعة أيام واعتقال أو هروب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ثم عودة الرئيس الأوكراني أو شخص آخر موال لروسيا. عندما فشل الهجوم الروسي على كييف تحول الهدف إلى تقسيم أوكرانيا إلى شطرين، الشرقي والغربي، يحد بينهما نهر الدنيبر، أي على نسق شبه الجزيرة الكورية. ولكن بعد أكثر من شهرين ومعارك طاحنة لم يستطع الجيش الروسي من احتلال مدينة خاركيف المحاذية الاستراتيجية، ناهيك عن المناطق الواسعة بينها وبين النهر. عندها تحول الهدف مرة أخرى إلى منطقة دونباس،. وتسعى روسيا إلى احتلال الشاطئ الأوكراني الممتد من ماريوبول إلى القرم لتأمين طريق بينهما والسيطرة الكاملة على بحر أزوف المؤدّي الى البحر الأسود، ما سيعتبر أيضاً انتصاراً يقدمه بوتين إلى شعبه. فكما قال أحدهم (كاتب إنجليزي): "إذا أردت أن تتأكد من إصابة الهدف، أطلق أولاً وما تصيبه هو الهدف."

بالمقابل، أوكرانيا لا تستطيع أن تقبل خسارة قسم كبير من أراضيها، كما يردد باسمتمرار الرئيس الأوكراني. ألأهم من ذلك هو موقف الحلفاء الغربيين، وعلى رأسهم أميركا. فأميركا قد أرسلت لغاية اليوم، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية، أسلحة تقدر بمليارات الدولارات وهي في تصاعد مستمر، كمّاً ونوعاً. والكونغرس الأميركي هو في طور الموافقة، بأغلبية ساحقة من الحزبين، على مساعدة لأوكرانيا تفوق الـ 33 مليار دولار. كما سيوافق الكونغرس على إحياء قانون "الإعارة والتأجير" لصالح أوكرانيا الذي يسمح للإدارة بارسال أسلحة، تُسدد أثمانها في وقت لاحق. مثل هذا القانون كان قد صدر مرة واحدة من قبل وذلك خلال الحرب العالمية الثانية بهدف الإسراع في تزويد إنجلترا والحلفاء (بما في ذلك الإتحاد السوفياتي) بالسلاح ويُعتبر أحد أسس نجاح ألحلفاء في صد الهجوم الألماني آنذاك. ما تريد أميركا أن تنجزه من هذه الحرب قاله بوضوح وزير دفاعها لويد أوستن في ختام زيارته لكييف مؤخراً:  "نريد إضعاف روسيا إلى حد لا يسمح لها بفعل هذا النوع من الأشياء كما فعلت في غزو أوكرانيا." وشرح متابعاً أن هذا يعني ألا نسمح لروسيا أن تستعيد قدرتها سريعاً لإعادة إنتاج القوات والمعدات التي خسرتها في أوكرانيا.

هذه إذاً ستكون حرباً طويلة. العقوبات الغربية على روسيا موجعة ولكن بوتين سيتحملها حتى الرمق الأخير. العقوبات الروسية في مجال الطاقة، أو تهديداتها بتوسيع رقعة المواجهات، كما أوحت انفجارات ترنزيستريا (على حدود أوكرانيا الغربية الجنوبية حيث لموسكو قوة عسكرية صغيرة) أو التهديد باستعمال السلاح النووي، لن تردع الأميركيين وحلفائهم من مواصلة الحرب. روسيا أقل تحملاً لعامل الوقت ولذلك فإن ملاذها للإستعجال هو كسر إرادة الأوكرانيين على القتال من خلال تصعيد هجماتها على المدنيين ما يعني أن الحرب لن تكون طويلة فحسب بل شرسة أيضاً.

النتيجة الأخطر لحرب أوكرانيا هي الوصول في نهايتها إلى حالة حرب باردة بين الغرب وروسيا. مكونات الحرب الباردة هذه بدأت تظهر من الآن، منذ الأشهر الأولى للحرب القائمة.

أهم مكونات الحرب الباردة هو فصل الإقتصادات. أوروبا بدأت بالفعل بإجراءات تهدف إلى إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي في المستقبل المنظور. الإستثمارات الأميركية في روسيا التي تبلغ قيمة أصولها حوالي مئة مليار دولار بدأت تتقلص بسرعة وكذلك الاستثمارات الأوروبية المقدرة أصولها بـ300 مليار دولار. وقد بدأت العقوبات الإنفصالية تتتالى في كل المجالات: المجال المالي والمصرفي، التبادل التجاريي حرية الطيران، احتجاز الاصول التابعة لروسيا وللأوليغارش الروس ويخوتهم، عقوبات ضد مئات الأشخاص بما في ذلك بوتين وعائلته وكبار المسؤولين وأسرهم، وصولاً إلى منع رياضيين روس  من الإشتراك بمسابقات دولية ومنع حصول هذه المسابقات على الأراضي الروسية. بعض هذه العقوبات طويلة الأمد يصعب التراجع عنها، كالإنفصال الإقتصادي مثلاً، والبعض الآخر سيصبح كذلك كلما طالت الحرب. 

الحرب الروسية الأوكرانية ليست كغيرها من الحروب المحلية، حتى الكبيرة منها كحرب فييتنام أو كوريا. قد لا تنتهي بحرب عالمية ثالثة كما يتخوف البعض ولكنها بلا شك ستحدث تغيرات في موازين القوى عالمياً، كما سيكون لها تداعيات استراتيجية طويلة الأمد على طبيعة العلاقات الدولية.



 سفير لبنان في واشنطن سابقاً.[1]