Thursday, December 14, 2023

ديموقرطية الفيتو

 

 

 

 

ديموقراطية الفيتو

14-12-2023

 

 

رياض طبارة*

 

#الفيتو، أي حق النقض، هو آلية تسمح لأقلية أن تعطل قراراً تبنته الأكثرية المطلقة. الفيتو الشائع في معظم الديموقراطيات (بما في ذلك #لبنان) يهدف عادة لتنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي معظم الديموقراطيات مثلاً، يستطيع رئيس الدولة أن يستعمل حق الفيتو ضد أي قرار يتخذه المجلس التشريعي بالأكثرية المطلقة، ولكن الأخير يستطيع أن يتجاوز فيتو الرئاسة إذا قررت أكثرية الثلثين ذلك. في هذه الحالة يكون هناك آلية للنقض وآلية أخرى لنقض النقض. وفي كل هذه الدول، هناك أمور تعتبر حساسة تتطلب ثلثي أصوات المجلس التشريعي أصلأً، ولا لزوم فيها لحق النقض.


ولكن حق النقض، حتى في حال وجود آلية تسمح بنقض النقض، يتعارض مع حكم الأكثرية المطلقة الذي هو من أسس الديموقراطية، وشعاره أن الأغلبية تحكم والأقلية تعارض. كما أن استعمال حق النقض يقلل من فعالية اتخاذ القرارات، حتى عندما يترافق مع آلية لنقض النقض، وكثيراً ما يشلها شللا تاماً.
تستعمل الديموقراطيات حق النقض رغم هذا التعارض، ورغم ما قد يترتب عليه من سلبيات في آلية اتخاذ القرارات، لأنه يوفر ضمانة ضد اتخاذ التشريعات المتسرعة وبالأخص لأنه يشكل حماية إضافية للأقليات. فالإنتظام في اتخاذ التشريعات كما حماية الأقليات، يكفلها الدستور في الأنظمة الديموقراطية، ولكن هذا لا يُعتبر كافياً بالنسبة لبعض الأمور الحساسة، كتعديل الدستور مثلاً، أو سن بعض القوانين التي تعتبر كيانية أو مصيرية.

وتسعى هذه الدول عادة للوصول الى توازن مناسب بين فعالية اتخاذ القرارات وبين الحماية الإضافية للدستور والأأقليات، على أن تبقى الأكثرية المطلقة هي الأساس في اتخاذ القرارات، وحق النقض الاستثناء. بمعنى آخر، فالديموقراطيات تعتبر ضمناً أن حق النقض، إذا استعمل بتأن وفي حالات محددة ومحدودة، قد تكون منافعه تتخطى مساوئه، وفي هذه الحال فتعارضه مع حكم الأكثرية يكون مبرراً والبلبلة التي قد تنجم عن استعماله تبقى ضمن حدود مقبولة.

الإختلال الصارخ في هذا التوازن ضمن إطار ديموقراطي هو في ألية اتخاذ القرارات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ففي مجلس الأمن، كما هو معروف، هناك خمس دول دائمة العضوية وعشر دول منتخبة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنتين. الفيتو هو حق للدول الخمس الأولى فقط، وليس هناك آلية لنقض النقض، ونادرا ما تنجح مفاوضات لاحقة، إذا حصلت، بتغييير موقف الدولة أو الأقلية الناقضة.

لا بد من الإشارة في هذا السياق أن استعمال الفيتو في مجلس الأمن هو عادة من جهة سياسية إيديولوجية واحدة تتغير مع الزمن. فمنذ أولى جلسات مجلس الأمن سنة 1946، وحتى منتصف الستينات، كان استعمال الفيتو في مجلس الأمن كثيفاً، ومصدره بشكل أساسي الاتحاد السوفياتي، المحاصر من قبل الغرب، لدرجة أن الفيتو لُقّب في أروقة الأمم المتحدة في حينه بـ"نيات" (
Niet) أي "لا" بالروسية. ومن أوائل الستينات وحتى التسعينات تحولت "نيات" الى نو "No" عندما أنتقل استعمال حق النقض بشكل أساسي إلى المجموعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما استعملته دفاعاً عن إسرائيل. ومؤخراً اختلطت "النيات" بالـ "نو"، أميركا تستعمله لحماية إسرائيل والاتحاد الروسي لحماية دوره في الحرب الأوكرانية. هذه المواجهة التاريخية الإديولوجية بين الشرق والغرب تفسر الى حد كبير لماذا لم يحصل تغيير في المواقف بعد الفيتو، ولا مفاوضات منتجة، فمعظم مشاريع القرارات بقيت دون اتفاق، أو لم تقدم أصلاً للتصويت تحسباُ للفيتو. وهذا ما دفع بعض الدول الكبرى لخوض حروب قاتلة دون الرجوع للمجلس (فييتنام، أوكرانيا وغيرها) ودول أخرالى حروب داخلية مميتة (السودان، رواندا مثلاً) دون استطاعة مجلس الأمن إيقافها، وهو الذي تأسس أصلاً لتفادي مثل هذه الحروب وصون الأمن والسلم الدوليين.

يوصلنا الحديث هنا إلى النظام الديموقراطي اللبناني. من حيث المبدأ، كما قلنا في البداية، تُتخذ القرارات السياسية في السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (مجلس الوزراء) بالأغلبية المطلقة إلا في بعض الأمور المحدودة والمحددة دستورياً التي تعتبر ذات أهمية خاصة. ولكن النظام السياسي اللبناني ابتدع، مع الوقت، وبشكل متزايد، أعرافا أعطت لكل مكوّن سياسي (يمثل أي طائفة أو مذهب، أو قسم وازن من أي منهما) حق الفيتو فيما يتعلق بالغالبية الكبرى من القرارات، ما شكل منظومة فيتو متعددة الطبقات وخطوط دفاع متتالية ضد نظام الأكثرية.

خط الدفاع الأول هو "الديموقراطية التوافقية" التي أصبح مفهومها أن أي قرار سياسي يجب أن يحصل بالتوافق بين جميع المكونات، أي أن يتخذ بالإجماع بينها. هذا المفهوم للديموقراطية التوافقية هو ابتكار لبناني وليس المفهوم العلمي لمبدأ ما يسمى بالـ "
Consensual Democracy" في العلوم السياسية. فالمبدأ الأخير لا يقلل من أهمية نظام الأكثرية بل يتطلب من الأفرقاء محاولة التوافق والتركيز على إيجاد أرضية مشتركة للأمور قبل اتخاذ القرارات المهمة، بالأكثرية المطلقة عندما تدعو الحاجة. المفهوم اللبناني للديموقراطية التوافقية تسبب في شلل في كثير من مجالات مهمة لانتظام عمل الدولة، على سبيل المثال، الارقام القياسية للوقت المطلوب لانتخاب رئيس للجمهورية (سنتين وأربعة أشهر لانتخاب الرئيس ميشال عون سنة 2016 وقد مضى حاليا أكثر من سنة ولم ينتخب رئيس جمهورية بعد، رغم الحرب القائمة في جنوب لبنان، وكذلك في تأليف الحكومات الذي تطلب، في المتوسط، 111 يوماً بين 2005 و2022 (جريدة الأوريان 22 حزيران 2022)، مع احتفاظ الرئيس تمام سلام بالرقم القياسي (348 يوماً).
في حال تم اختراق خط الدفاع الأول هناك خط دفاع ثان وهو مبدأ "الميثاقية." تطور مبدأ الميثاقية في لبنان حتى اصبح يتمثل في إعطاء كل المكوّنات حق الفيتو على أي قرار سياسي تتخذه باقي المكونات. فيتو الميثاقية أصبح يستعمل مثلاً في كل التعيينات في الدولة، ليس فقط بالنسبة للفئة الأولى، بل وصولاً إلى الفئة الرابعة، ما نتج عنه فراغات في معظم الوظائف، من القضاة حتى حراس الغابات، ما راكم الدعاوى الباقية دون بت، والحرائق في الغابات دون رقيب.

رغم هذين الدرعين الواقيين، إضافة الى ما يوفره الدستور، هناك دائماً من يطالب بـ"الثلث المعطل،" في الحكومات، والذي أصبح جزأً لا يتجزأ من المشاورات التي تحصل في عملية تأليفها، والمطالبة به تأتي من كل المكونات حسب الحاجة لطمأنتها، أو لأسباب أخرى، من خلال إعطائها الإمكانية الإضافية لاستعمال الفيتو. وعلى كل حال، يستطيع أي مكون إسقاط الحكومة بمجرد الاستقالة منها (كما حصل سنة 2006 مثلاً) تحت راية الميثاقية، ما يعيدنا إلى خط الدفاع الأول.

وإذا لم تنجح كل هذه الدروع الواقية، فليس على أصحاب العلاقة إلا اتهام الآخرين بنسف "العيش المشترك" وتعريض البلاد إلى حرب أهلية.

في كتابه "النظام السياسي والإنحطاط السياسي" صاغ المفكر السياسي ألاميركي فرنسيس فوكوياما كلمة "فيتوكراسي" (
Vitocracy) لوصف الحالات حيث يميل فيها النظام الديموقراطي نحو المبالغة في استعمال حق الفيتو. وينبه فوكوياما أن النظام الأميركي أصبح يحتوي بشكل متزايد نقاطا فيتوكراسية (vitocracy points) في مجال اتخاذ القرارات حيث يُبالَغ في استعمال حق النقض.

أصبحت الديموقراطية اللينانية فيتوكراسي من النوع المتشدد، حيث الفيتو هو الأساس والأغلبية المطلقة هي الإستثناء في اتخاذ القرارات، وحيث أصبح اتخاذ القرار السياسي في الجمهورية يشبه نظيره في مجلس الأمن، إذ تستطيع أية مجموعة سياسية وازنة أن تعطل اتخاذ أي قرار، بينما لا تستطيع الأغلبية اتخاذه. وكما هو الحال في مجلس الأمن، تبقى الدولة غير قادرة، في معظم الأحيان، على اتخاذ القرارات، حتى االروتينية منها، والتي تؤمن الحد الأدنى من متطلبات إدارة الدولة وشؤونها الداخلية، أو تسمح بصياغة سياسة خارجية راشدة.

 

*سفير لبنان في الولايات المتحدة سابقا

 

https://www.annahar.com/arabic/makalat/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/295816/%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AA%D9%88