Thursday, December 14, 2023

ديموقرطية الفيتو

 

 

 

 

ديموقراطية الفيتو

14-12-2023

 

 

رياض طبارة*

 

#الفيتو، أي حق النقض، هو آلية تسمح لأقلية أن تعطل قراراً تبنته الأكثرية المطلقة. الفيتو الشائع في معظم الديموقراطيات (بما في ذلك #لبنان) يهدف عادة لتنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي معظم الديموقراطيات مثلاً، يستطيع رئيس الدولة أن يستعمل حق الفيتو ضد أي قرار يتخذه المجلس التشريعي بالأكثرية المطلقة، ولكن الأخير يستطيع أن يتجاوز فيتو الرئاسة إذا قررت أكثرية الثلثين ذلك. في هذه الحالة يكون هناك آلية للنقض وآلية أخرى لنقض النقض. وفي كل هذه الدول، هناك أمور تعتبر حساسة تتطلب ثلثي أصوات المجلس التشريعي أصلأً، ولا لزوم فيها لحق النقض.


ولكن حق النقض، حتى في حال وجود آلية تسمح بنقض النقض، يتعارض مع حكم الأكثرية المطلقة الذي هو من أسس الديموقراطية، وشعاره أن الأغلبية تحكم والأقلية تعارض. كما أن استعمال حق النقض يقلل من فعالية اتخاذ القرارات، حتى عندما يترافق مع آلية لنقض النقض، وكثيراً ما يشلها شللا تاماً.
تستعمل الديموقراطيات حق النقض رغم هذا التعارض، ورغم ما قد يترتب عليه من سلبيات في آلية اتخاذ القرارات، لأنه يوفر ضمانة ضد اتخاذ التشريعات المتسرعة وبالأخص لأنه يشكل حماية إضافية للأقليات. فالإنتظام في اتخاذ التشريعات كما حماية الأقليات، يكفلها الدستور في الأنظمة الديموقراطية، ولكن هذا لا يُعتبر كافياً بالنسبة لبعض الأمور الحساسة، كتعديل الدستور مثلاً، أو سن بعض القوانين التي تعتبر كيانية أو مصيرية.

وتسعى هذه الدول عادة للوصول الى توازن مناسب بين فعالية اتخاذ القرارات وبين الحماية الإضافية للدستور والأأقليات، على أن تبقى الأكثرية المطلقة هي الأساس في اتخاذ القرارات، وحق النقض الاستثناء. بمعنى آخر، فالديموقراطيات تعتبر ضمناً أن حق النقض، إذا استعمل بتأن وفي حالات محددة ومحدودة، قد تكون منافعه تتخطى مساوئه، وفي هذه الحال فتعارضه مع حكم الأكثرية يكون مبرراً والبلبلة التي قد تنجم عن استعماله تبقى ضمن حدود مقبولة.

الإختلال الصارخ في هذا التوازن ضمن إطار ديموقراطي هو في ألية اتخاذ القرارات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ففي مجلس الأمن، كما هو معروف، هناك خمس دول دائمة العضوية وعشر دول منتخبة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنتين. الفيتو هو حق للدول الخمس الأولى فقط، وليس هناك آلية لنقض النقض، ونادرا ما تنجح مفاوضات لاحقة، إذا حصلت، بتغييير موقف الدولة أو الأقلية الناقضة.

لا بد من الإشارة في هذا السياق أن استعمال الفيتو في مجلس الأمن هو عادة من جهة سياسية إيديولوجية واحدة تتغير مع الزمن. فمنذ أولى جلسات مجلس الأمن سنة 1946، وحتى منتصف الستينات، كان استعمال الفيتو في مجلس الأمن كثيفاً، ومصدره بشكل أساسي الاتحاد السوفياتي، المحاصر من قبل الغرب، لدرجة أن الفيتو لُقّب في أروقة الأمم المتحدة في حينه بـ"نيات" (
Niet) أي "لا" بالروسية. ومن أوائل الستينات وحتى التسعينات تحولت "نيات" الى نو "No" عندما أنتقل استعمال حق النقض بشكل أساسي إلى المجموعة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما استعملته دفاعاً عن إسرائيل. ومؤخراً اختلطت "النيات" بالـ "نو"، أميركا تستعمله لحماية إسرائيل والاتحاد الروسي لحماية دوره في الحرب الأوكرانية. هذه المواجهة التاريخية الإديولوجية بين الشرق والغرب تفسر الى حد كبير لماذا لم يحصل تغيير في المواقف بعد الفيتو، ولا مفاوضات منتجة، فمعظم مشاريع القرارات بقيت دون اتفاق، أو لم تقدم أصلاً للتصويت تحسباُ للفيتو. وهذا ما دفع بعض الدول الكبرى لخوض حروب قاتلة دون الرجوع للمجلس (فييتنام، أوكرانيا وغيرها) ودول أخرالى حروب داخلية مميتة (السودان، رواندا مثلاً) دون استطاعة مجلس الأمن إيقافها، وهو الذي تأسس أصلاً لتفادي مثل هذه الحروب وصون الأمن والسلم الدوليين.

يوصلنا الحديث هنا إلى النظام الديموقراطي اللبناني. من حيث المبدأ، كما قلنا في البداية، تُتخذ القرارات السياسية في السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (مجلس الوزراء) بالأغلبية المطلقة إلا في بعض الأمور المحدودة والمحددة دستورياً التي تعتبر ذات أهمية خاصة. ولكن النظام السياسي اللبناني ابتدع، مع الوقت، وبشكل متزايد، أعرافا أعطت لكل مكوّن سياسي (يمثل أي طائفة أو مذهب، أو قسم وازن من أي منهما) حق الفيتو فيما يتعلق بالغالبية الكبرى من القرارات، ما شكل منظومة فيتو متعددة الطبقات وخطوط دفاع متتالية ضد نظام الأكثرية.

خط الدفاع الأول هو "الديموقراطية التوافقية" التي أصبح مفهومها أن أي قرار سياسي يجب أن يحصل بالتوافق بين جميع المكونات، أي أن يتخذ بالإجماع بينها. هذا المفهوم للديموقراطية التوافقية هو ابتكار لبناني وليس المفهوم العلمي لمبدأ ما يسمى بالـ "
Consensual Democracy" في العلوم السياسية. فالمبدأ الأخير لا يقلل من أهمية نظام الأكثرية بل يتطلب من الأفرقاء محاولة التوافق والتركيز على إيجاد أرضية مشتركة للأمور قبل اتخاذ القرارات المهمة، بالأكثرية المطلقة عندما تدعو الحاجة. المفهوم اللبناني للديموقراطية التوافقية تسبب في شلل في كثير من مجالات مهمة لانتظام عمل الدولة، على سبيل المثال، الارقام القياسية للوقت المطلوب لانتخاب رئيس للجمهورية (سنتين وأربعة أشهر لانتخاب الرئيس ميشال عون سنة 2016 وقد مضى حاليا أكثر من سنة ولم ينتخب رئيس جمهورية بعد، رغم الحرب القائمة في جنوب لبنان، وكذلك في تأليف الحكومات الذي تطلب، في المتوسط، 111 يوماً بين 2005 و2022 (جريدة الأوريان 22 حزيران 2022)، مع احتفاظ الرئيس تمام سلام بالرقم القياسي (348 يوماً).
في حال تم اختراق خط الدفاع الأول هناك خط دفاع ثان وهو مبدأ "الميثاقية." تطور مبدأ الميثاقية في لبنان حتى اصبح يتمثل في إعطاء كل المكوّنات حق الفيتو على أي قرار سياسي تتخذه باقي المكونات. فيتو الميثاقية أصبح يستعمل مثلاً في كل التعيينات في الدولة، ليس فقط بالنسبة للفئة الأولى، بل وصولاً إلى الفئة الرابعة، ما نتج عنه فراغات في معظم الوظائف، من القضاة حتى حراس الغابات، ما راكم الدعاوى الباقية دون بت، والحرائق في الغابات دون رقيب.

رغم هذين الدرعين الواقيين، إضافة الى ما يوفره الدستور، هناك دائماً من يطالب بـ"الثلث المعطل،" في الحكومات، والذي أصبح جزأً لا يتجزأ من المشاورات التي تحصل في عملية تأليفها، والمطالبة به تأتي من كل المكونات حسب الحاجة لطمأنتها، أو لأسباب أخرى، من خلال إعطائها الإمكانية الإضافية لاستعمال الفيتو. وعلى كل حال، يستطيع أي مكون إسقاط الحكومة بمجرد الاستقالة منها (كما حصل سنة 2006 مثلاً) تحت راية الميثاقية، ما يعيدنا إلى خط الدفاع الأول.

وإذا لم تنجح كل هذه الدروع الواقية، فليس على أصحاب العلاقة إلا اتهام الآخرين بنسف "العيش المشترك" وتعريض البلاد إلى حرب أهلية.

في كتابه "النظام السياسي والإنحطاط السياسي" صاغ المفكر السياسي ألاميركي فرنسيس فوكوياما كلمة "فيتوكراسي" (
Vitocracy) لوصف الحالات حيث يميل فيها النظام الديموقراطي نحو المبالغة في استعمال حق الفيتو. وينبه فوكوياما أن النظام الأميركي أصبح يحتوي بشكل متزايد نقاطا فيتوكراسية (vitocracy points) في مجال اتخاذ القرارات حيث يُبالَغ في استعمال حق النقض.

أصبحت الديموقراطية اللينانية فيتوكراسي من النوع المتشدد، حيث الفيتو هو الأساس والأغلبية المطلقة هي الإستثناء في اتخاذ القرارات، وحيث أصبح اتخاذ القرار السياسي في الجمهورية يشبه نظيره في مجلس الأمن، إذ تستطيع أية مجموعة سياسية وازنة أن تعطل اتخاذ أي قرار، بينما لا تستطيع الأغلبية اتخاذه. وكما هو الحال في مجلس الأمن، تبقى الدولة غير قادرة، في معظم الأحيان، على اتخاذ القرارات، حتى االروتينية منها، والتي تؤمن الحد الأدنى من متطلبات إدارة الدولة وشؤونها الداخلية، أو تسمح بصياغة سياسة خارجية راشدة.

 

*سفير لبنان في الولايات المتحدة سابقا

 

https://www.annahar.com/arabic/makalat/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/295816/%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AA%D9%88

 

Tuesday, May 30, 2023

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

  


النهار

09-05-2023

 

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

رياض طبارة[1]

 

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في أوائل سنة 1990، دخلت روسيا في سبات عميق لعشر سنوات. عند الانهيار كان فلاديمير بوتين يعمل، منذ خمس سنوات، أي طيلة عهد ميخائيل غورباتشوف، كضابط في الـ كي جي بي، جهاز الاستخبارات السوفياتي، في ألمانيا الشرقية، حيث كانت مهمته الروتينية تجنيد وتنظيم عملاء للمخابرات في منطقة عمله. انهار حائط برلين وعمت التظاهرات شوارع مدينة درسدن حيث كان مكتبه، ودخل الناشطون الى مكاتب مخابرات المانيا الشرقية، ستازي، المقابلة لمكاتب الـ كي جي بي، فأتصل بوتين هاتفياً بفصيل الدبابات السوفياتي العامل في المدينة طالباً الحماية، فجاءه الجواب بأن الفصيل لا يستطيع التحرك دون أوامر من موسكو. وأضاف محدثه: "وموسكو صامتة." خرج الضابط بوتين لملاقات المنتفضين وقال لهم، بحسب أحدهم: "لا تدخلوا المبنى.الرفاق في الداخل مسلحون ولديهم تعليمات باستعمال سلاحهم  عند الضرورة." اقتنعت المجموعة المنتفضة وغادرت المكان. عاد بوتين الى الداخل وبدأ ورفاقة حرق الملفات السرية. "لقد حرقنا كمية هائلة من الأشياء حتى انفجر الفرن،" قال بوتين لاحقا.

"موسكو صامتة." كلمتان أثرتا بالضابط الشاب، البالغ من العمر 37 سنة، أكثر من أية كلمات أخرى، كما يجمع عليه مؤرخوا هذه الحقبة. كان لما حدث له في درسدن خلال خدمته هناك أثر كبير في تركيبة شخصيته.

عاد بوتين من درسدن إلى بطرسبرغ ، مسقط راسه، في أوائل التسعينات غاضباً على ما آلت إليه الأمور في بلاده ومصمماً على الوصول الى موقع يخوّله إعادة بنائها، ولكن هذه المرة موسكو لن تكون صامتة. كان النموذج الأول في فكره هو الإتحاد السوفياتي وعظمته. كان كالكثيرين من الروس معجب بلينين وعودته المظفرة الى بطرسبرغ لقيادة الثورة الشيوعية، كما فعل هو من درسدن. حتى وحشية لينين (وستالين من بعده) في تعامله مع الرفاق ونزعته التوسعية لم تزعجا بوتين بل زادتاه إعجابا. أضف الى ذلك العلاقة التاريخية التي ربطتهما، إذ كان سبيريدون بوتين، جد فلاديمير، الطاهي الخاص للينين (ومن بعده ستالين). ولكن رغم ذلك لم يكن الاتحاد السوفياتي هو نموذجه المفضل في تاريخ روسيا بل العهود القيصرية وخاصة عهد القيصر بطرس الكبير الذي أسس الإمبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر. ففي تصريح له سنة 2016 ، بعد أيام من الاحتفال بذكرى وفاة لينين، قال بوتين إن قتل القيصر نقولا الثاني وأسرته، وخدمه، وألاف من الكهنة، وضعت قنبلة موقوتة تحت الدولة الروسية.  

ولكن شخصية بوتين لا تُختصرفقط بإعجابه للحقبة الشيوعية، أو حتى بتعطشه للامبراطورية الروسية، دون التطرق بشكل أساسي لتأثره بفلسفة صديقه الكسندر دوغين، الملقب بـ "عقل بوتين."  ثلاث أفكار لدوغين هي الأهم في هذا السياق. ألفكرة ألاولى هي التي طرحها دوغين في كتابه "النظرية السياسية الرابعة" والتي يرفض فيها الديموقراطية الليبرالية التي ترتكز على الفردية (individualism)، والشيوعية التي ترتكز على الطبقية (class)، والفاشية التي تضع الوطن فوق الجميع. بالمقابل، فالنظرية  السياسية الرابعة، التي أسماها دوغين "الثورة المحافظة" (revolutionary conservatism)، فتؤمن بالتعددية في إطار عالم أخلاقي، يحترم  التقاليد، وحرمة العائلة، وقداسة الأديان. ألنظام السياسي الذي يجب أن يحكم هذا المجتمع هو النظام "الديموقراطي أللاليبرالي" (Illiberal democracy) أي نظام ديموقراطي في مؤسساته كالإنتخابات، ولكن قوي بقيادته التي قد تتجاوز الدستور والقوانين عند الحاجة، ما قد يشبّهه البعض بديموقراطية المستبد العادل. فيكتور أوربان، الرئيس المجري المعروف بمساندته للنظام "اللاليبرالي" يعتبر أن الأمثلة على دول نجحت فيها الديموقراطية اللاليبرالية هي روسيا (بقيادة بوتين) وسنغافورة وتركيا والصين، بالإضافة طبعاُ الى بلده المجر، ولو ان البعض من هذه الدول قد لا يُعتبر ديموقراطياً حسب قوله.

الفكرة الثانية لدوغين في السياق نفسه هي ما يسمى "الاوراسية الجديدة." وتتلخص هذه النظرية الجيوسياسية بضرورة إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية التاريخية وضم دول أوروبا الشرقية إليها وصولا الى دول البلقان الاورثذكسية كخطوة أولى. ويركز دوغين في هذا المجال على ضرورة ضم جورجيا  لروسيا وشبه جزيرة القرم وكل أوكرانيا التي تصبح قسماً مما سماه دوغين "روسيا الجديدة" (Novorossia).الخطوة الثانية هي تأسيس الـ "الحلف الاوراسي،" أي حلف سياسي عسكري، يضم الهند والصين ومنشوريا وصولاً الى المحيط الأطلسي، يتحالف مع دول إسلامية، مستبعداً داعش التي يعتبرها أداة أميركية، وكذلك إسرائيل. "الحلف الأوراسي،" برأي دوغين، هو التجمع الوحيد الذي يستطيع الوقوف بوجه التجمعات الغربية، خاصة حلف الناتو، وأن يشكل القطب الثاني في الجيوسياسية العالمية.

الفكرة الثالثة لدوغين في هذا المجال هي ضرورة العمل على تفكيك الاتحادات الغربية، على رأسها الاتحاد الأوروبي، وإضعاف حلف الأطلسي.

سياسة بوتين الخارجية هي، الى حد كبير، انعكاس مباشر لافكار دوغين. الكثير من خطبه مقتبسة، بعضها حرفياً، من كتابات دوغين بما في ذلك تعبير "روسيا الجديدة". كتاب دوغين "أسُس الجغرافيا السياسية" (Foundations of Geopolitics)، الذي يشرح فيه بالتفصيل أفكاره حول الاتحاد الاوراسي وضرورة تفكيك الاتحادات الغربية، بخاصة حلف الناتو، هو أحد المراجع الرئيسية الرسمية في برنامج تدريب الجيش الروسي وعقيدته القتالية.

 عمل بوتين منذ استلامه الحكم على إضعاف الاتحاد الأوروبي ومن ورائه حلف الناتو. عدة مصادر تؤكد أن روسيا دعمت بأشكال مختلفة أنصار خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي (بركزيت). كما تدعم الحركات اليمينية والانفصالية في دول أوربية عدة، منها حزب الحرية في النمسا، وحزب الليغا في إيطاليا، وحزب  التجمع الوطني (لوبين) في فرنسا.

وفي أول سنة 2015، أعلنت خمس دول (روسيا، أرمينيا، بيلاروس، كازاخستات وقيرغيزستان وبحضور مراقبين عن أوزبكيستان وكوبا) "الاتحاد الأوراسي،" على نسق الاتحاد الأوروبي. ورغم تأكيد بوتين في الاجتماع أن هذا الاتحاد ليس سوى اتحاد إقتصادي، أصر مندوب كزاخستان على زيادة التأكيد، لمنع أي لبس، بأن الاتحاد هو ذات منافع إقتصادية فقط وأضاف: "إننا لا نتدخل بما تفعله روسيا سياسيا وهم لا يستطيعون أن يقولوا لنا أي سياسة خارجية سنتبعها."

سلسلة من التوسعات الروسية داخل أوروبا كان دعى إليها دوغين حصلت بدأً من 2008 وحرب الخمسة أيام بين روسيا وجورجيا التي انتهت باحتلال روسيا لجنوب أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا (يومها لام دوغين بوتين لانه لم يحتل العاصمة تبليسي) . في شباط سنة 2014 نجحت الثورة البرتقالية في أوكرانيا وتم الانقلاب في شباط على الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بقرار برلماني مشكوك بدستوريته. وفي آذار احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها اليها. وفي الوقت نفسه بدأت انتفاضة الاثنيين الروس في مقاطعتي دونتسك ولوهانسك شرق أوكرانيا (منطقة الدونباس) بدعم روسي.

كانت حجة الروس أن كل ما حصل هو ليس توسعياُ بل عملية "تعديل في الحدود،" لأن انهيار الاتحاد السوفياتي، كما قال بوتين، كانت من نتائجه أن ملايين الروس وجدوا انفسهم خارج وطنهم الأم "ما شكّل مأساة إنسانية كبيرة."  فسكان جنوب أوسيتيا وأبخازيا أكثريتهم الساحقة من الإثنية الروسية. شبه جزيرة القرم هي تاريخياً قسم من الإمبراطورية الروسية ومن ثم الاتحاد السوفياتي "أهداها" خروتشيف لأوكرانيا سنة 1954 لأسباب سياسية منها صراعه مع مالينكوف على السلطة. ومنطقة الدونباس شرق أوكرانيا يقطنها روس أعلنوا استقلالهم من أوكرانيا بعد استفتاء أظهر أن الأغلبية الكبرى تريد الانفصال.

كانت سياسة أوروبا تجاه روسيا البوتينية إيجابية منذ البداية وكان جوهرها إدماج الاقتصاد الروسي بالأوروبي. بقيت كذلك حتى بعد التجاوزات الروسية المذكورة ورغم بعض العقوبات الأميركية الأوروبية الخجولة، التي فرضتها أوروبا وأميركا على روسيا. وكان هناك مجموعة كبيرة في الكرملين تتخوف من أفكار دوغين وتنبه بأنها ستجر روسيا الى العزلة. حتى أن كثر في الإعلام اليوم يعتبرون أن محاولة إغتياله في آب الماضي، التي أودت بحياة ابنته، داريا دوغينا، خطأً، كانت من قبل هذه المجموعة ومسانديها.

تغيرت نظرة الغرب التسامحية تجاه روسيا بعد الغزو الروسي لاوكرانيا في شباط  2022، إذ كان من الواضح أن الهجوم على العاصمة كييف، ومحاولة تغيير النظام في أوكرانيا لصالح روسيا، لم يكن تحركاً من نوع "تعديل الحدود" بل كان ذات أبعاد توسعية. ففي سنة 1997 كتب دوغين: "إن استقلالية أوكرانيا تشكل خطراً ضخماً لأوراسيا. يجب أن تصبح مقاطعة تابعة للإدارة المركزية الروسية." هذه الفكرة كانت موجودة في الأدبيات الروسية قبل بوتين، ولكن هذه المرة أصبحت رسمية إذ تبناها بوتين "بشكل كامل" بحسب النيويورك تايمز (22 آذار 2022). ففي سنة 2013 قال بوتين "إن أوراسيا هي منطقة جيوسياسية رئيسية في العالم،" حيث سيتم فيها الدفاع عن الـ "كود الجيني" الروسي وعن الإثنيات الأخرى، ضد "الليبرالية الغربية المتطرفة."

انقلبت سياسة أوروبا الإندماجية تجاه روسيا، بشكل سريع ومستدام، مباشرة بعد غزو أوكرانيا وتحولت الى سياسة انفصالية كاملة تستعيد ذكرى الحرب الباردة. وتحولت الحرب الأوكرانية بالنسبة للغرب من حرب دفاعية عن بلد أوروبي، الى حرب "استباقية" ضد فكرة توسعية أكبر من ذلك بكثير. لذا سارع حلف الناتو لتحريك قواته شرقاً، خاصة الى دول البلطيق وبولندا بطلب منها، كما سارع الى قبول فنلندا في الحلف وهو يعمل اليوم على ضم الأسوج وجورجيا ولربما أوكرانيا نفسها اليه. وبسرعة غير مسبوقة، أحاطت أوروبا بغرب روسيا إحاطة كاملة. وفي هذا السياق، قال لويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي في آذار 2022، أي بعد شهر واحد من بدء الحرب الأوكرانية، "نريد إضعاف روسيا إلى حد لا يسمح لها بفعل هذا النوع من الأشياء كما فعلت في غزو أوكرانيا." وشرح أن هذا يعني ألا نسمح لروسيا أن تستعيد قدرتها سريعاً لإعادة إنتاج القوات والمعدات التي خسرتها في أوكرانيا.

الحرب الروسية الأوكرانية لم تعد حرباً ضد انفصاليين روس في دونيتسك ولوهانسك، كما كانت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، بل تحولت الى صراع على الهيمنة الجيوسياسية بين قطبين، له خلفيته الفكرية وأبعاده الدولية. مواجهة تشبه تلك القائمة حالياً بين أميركا والصين، ولكنها أكثر تعقيداً.


[1]  سفير لبنان لدى واشنطن سابقاً.

Tuesday, March 28, 2023

 الثلاثاء - 28 آذار 2023

ألنهار

عودة العلاقات بين السعودية وإيران: خلفيتها ومحتواها

رياض طبارة[1]

بدأت المحادثات بين الدول الخمس زائد واحد مع إيران حول برنامجها النووي سنة 2003 واستغرقت 13 عاماً للوصول إلى اتفاق وقّعه عن أميركا الرئيس باراك أوباما في تموز سنة 2015. لم يكن الاتفاق شعبياُ في الكونغرس الِأميركي، حتى بين الديموقراطيين، أي حزب أوباما نفسه. كانت حجة المعترضين أن الاتفاق غير كامل وغير متكافئ. أهم الإعتراضات كانت ثلاثة:  أولاً أن الاتفاق ينتهي سنة 2030، ما سيسمح لإيران بمعاودة نشاطاتها النووية بعد ذلك، وثانياُ أنه لايشمل أي لجم لبرنامج إيران الصاروخي والباليستي، الذي يعتبره المعترضون بخطورة البرنامج النووي وثالثاً، وبالأخص، أن الاتفاق لا يلحظ أي حظر على ما يعتبرونه أنشطة إيران في دعم الإرهاب، ودعم الميليشيات المتحالفة معها في المنطقة، كالحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان أي باختصار ما سمي علاقة إيران بدول الجوار. واعتبر المعترضون أن رفع العقوبات المتعلقة ببرنامجها النووي سيعطي إيران مليارات من الدولارات ما سيسمح لها بزيادة دعمها للميليشيات المذكورة وزيادة أنشطتها الإرهابية. وقّع أوباما الاتفاق رغم ذلك، ورفع عن إيران العقوبات المتعلقة ببرنامجها النووي في كانون الثاني سنة 2016، وكانت حجته أن هذه النواقص المهمة ستشكل مراحل لاحقة للاتفاق النووي. انتهت ولاية أوباما الأخيرة بعد سنة ولم يحصل أي اتفاق جديد رغم محاولاته ولكن ضرورة توسيع الاتفاق ليشمل البنود الثلاثة المذكورة بقي سياسة الإدارة الأميركية حتى يومنا هذا.

 سياسة ترامب، وريث أوباما في منصب الرئاسة الأميركية، كانت أن انسحبت أميركا من الاتفاق في أيار سنة 2018 وإعادت العقوبات، وزادت عليها عقوبات أكثر إيذاءً ضمن سياسة سمّيت سياسة "الضغوط القصوى" (maximum pressure) تهدف إلى جلب إيران إلى طاولة المفاوضات ضعيفة، ومستعدة أن تقبل بشروط أميركا في توسيع الاتفاق. ولكن إيران لم ترضخ. حاول الرئيس جو بايدن منذ انتخابه في كانون الثاني سنة 2021 العودة الى االمفاوضات دون جدوى حتى اليوم إذ بقيت عقدة توسيع الاتفاق هي المعضلة الِأساسية.

خلال السنوات الثلاث التي تلت انسحاب أميركا من الاتفاق، وفي ظل ارتفاع في درجة التوتر في المنطقة، خاصة بين إيران والمملكة العربية السعودية، تطورت قناعة لدى الدول الغربية المعنية بأن موضوع علاقة إيران بدول الجوار، بما في ذلك دعمها للميليشيات العاملة في هذه الدول، لا يحل بغياب تمثيل ما لهذه الدول في المحادثات حول الموضوع. طرحت يومها فكرة مشاركة المملكة العربية السعودية في اجتماعات فيينا ولكن الفكرة  لم تجد الرضا المطلوب بسبب معارضة إيران وعدم حماسة بعض الدول المفاوضة. في النهاية، وبعد أخذ ورد تقرر فصل المفاوضات إلى شقين: الشق الدولي في فيينا يعنى بالامور المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني تحضره الدول السبع المعنية وشق إقليمي يبحث بعلاقة إيران بدول الجوار ولاسيما وضع الميليشيات المدعومة والممولة من قبلها. وهكذا كان. ففي نيسان 2021 أعلن "فجأة" عن بدء محادثات مباشرة بين المملكة وإيران في بغداد.

هذان المساران من المفاوضات، المسار الدولي والمسار الإقليمي، هما تؤمان، منفصلان من حيث المحتوى ومتناغمان من حيث التوقيت، ومن الصعب أن يصل أحدهما إلى نهايته دون أن يكون الثاني وصل أيضاً الى نهايته أو أشرف عليها. بمعنى آخر، لن ترفع العقوبات عن إيران قبل أن يحصل اتفاق على دور الميليشيات المتحالفة معها.

لذلك فاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وإيران ليس سوى خطوة أولى في المسار الإقليمي لا بد أن تتبعها خطوات أخرى. فالمحادثات المتقطعة بين البلدين خلال السنة الماضية ستصبح، بعد تبادل السفراء، محادثات رسمية برعاية الصين ومتابعة المجتمع الدولي.

مؤشرات عدة تؤكد بأن البند الرئيسي في هذه المحادثات هو علاقة إيران بدول الجوار ودور الميليشيات المتحالفة معها. أول هذه المؤشرات ظهرت في نص الأتفاق الثلاثي المعلن. فبعد المقدمة التي تم فيها شكر الأطراف المعنية، وخاصة العراق والصين، وفي الفقرة الأولى التي تبعتها مباشرة، تعلن الأطراف الثلاثة إن الاتفاق يشمل تبادل السفراء خلال مدة أقصاها شهرين كما "يشمل التأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول." هذا النص ملفت لأنه يتخطى الاحترام المتبادل بين الدولتين صاحبتي  العلاقة، كما تجري العادة في الاتفاقات الثنائية، الى "سيادة الدول" بشكل عام كما يضع احترام سيادة الدول هذه في الجملة نفسها التي تعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية التي هي السبب الرئيسي للإعلان ولا يتم ذكر أي شيء آخر يشمله الاتفاق.

 وفي إطلالته المتلفزة في 10 آذار، أي مباشرة بعد إعلان الاتفاق الثلاثي، قال السيد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، في إشارة واضحة الى موضوع المحادثات السعودية الإيرانية المنتظرة، "إن ثقتنا كبيرة بأن الاتفاق لن يكون على حسابنا ولا حساب اليمن ولا على حساب المقاومة لأننا نثق بأن أحد طرفيه، أي الجمهورية الإسلامية في إيران، لا يخلع صاحبه."

لا شك أن المحادثات بين الدولتين ستكون على مستوى عال وستبدأ سريعاً كما يستدل من دعوة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، بعد أيام قليلة من إعلان الاتفاق، للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة المملكة وترحيب الأخير بهذه الدعوة. كما أن جدّية المحادثات ستكون أكثر من تلك التي سادت المحادثات بين الدولتين التي سبقتها، أي قبل توقيع الاتفاق، وهذا ما تؤكده تصريحات الجانبين وخاصة تصريح وزير المالية السعودي محمد الجدعان بأنه سيكون هناك استثمارات سعودية في إيران وأنها قد تأتي "سريعاً  جدأً."

ولكن، هل ستتغير علاقة إيران بدول الجوار (اليمن، البحرين، العراق، وسوريا ولبنان) ويتغير بالتالي دور الميليشيات في هذه الدول وينخفض مستوى التوتر الداخلي فيها؟ وعلى ماذا ستحصل إيران بالمقابل عدى عن رفع العقوبات الغربية عنها؟ بالنسبة لليمن هناك دلائل إيجابية: اتفاق مبدئي حول تبادل الأسرى بين الحوثيين والنظام وأنباء دبلوماسية أميركية مصدرها جريدة وول ستريت جورنال بأن ايران مستعدة لإيقاف المساعدات العسكرية للحوثيين. ولكن كل هذا لا يبنى عليه سوى أن باب النقاش حول هذا الموضوع قد فتح على مصراعيه.

كل  الدول المعنية رحبت بهذا الاتفاق  سوى إسرائيل. حتى أميركا، التي قيل أنها ممتعضة من كون الاتفاق حصل برعاية الصين، أكدت بأنها ترحب به. أما إسرائيل فهي تعمل منذ مدة وبجهد كبير لضم االسعودية الى اتفاقات إبراهيم، الى جانب البحرين والامارات والمغرب، في إطار حلف إقليمي جديد ضد إيران. الاتفاق الثلاثي خرب عليها إمكانية مثل هذا التحالف، أقله في الستقبل المنظور، ما شكل صفعة لها ووضع نتنياهو في موقع حرج تجاه المعارضة،  حتى اليمينية منها. يقول رئيس الوزراء الإسرائيل السابق يائير لابيد إن هذا الاتفاق يشكل "انهيارا للجدار الدفاعي الإقليمي الذي بدأنا ببنائه ضد إيران" ورئيس الوزراء الأسبق، نفتالي بينيت، اليميني المتطرف، يصف الاتفاق بأنه "نصر سياسي لإيران... وفشل ذريع لحكومة نتنياهو." أما حكومة نتنياهو، التي أطلق عليها بعض الإعلام الأميركي إسم "حكومة الكراهية،" والتي تضم متهمين ومدانين قضائيا ومتهورين سياسياً، فقد كثفت تهديداتها بضرب النظام النووي الإيراني وجر أميركا الى حرب جديدة. إسرائيل تشكل المطبة الأكثر خطورة في طريق المباحثات السعودية الإيرانية القادمة.



[1]  سفير لبنان الأسبق في واشنطن.