www.assafir.com
قضايا وآراء English at the end
تاريخ المقال: 13-03-2015 01:57 AM
أين الأمم المتحدة من
عصرها الذهبي؟
رياض طبارة
أتكلم
في هذه المقالة بشكل رئيسي عن العمل التنموي للأمم المتحدة، وليس عن عملها السياسي
في مجال الأمن والسلام الدوليين. من الضروري، خصوصاً في هذا السياق، الفصل بين
الأمانة العامة، أي الجسم الفني والتنفيذي للمنظمة، والجسم السياسي الذي يشمل
الدول الأعضاء ويتخذ في النهاية القرارات الصادرة عن المنظمة. العلاقة بين الجسمين
هي ذات أهمية، وهي قد تغيرت مع الوقت، إلى حد كبير مع شخصية الأمين العام، وعلى
حساب مصداقية الأمانة العامة ومصالح الدول النامية. هذه هي قصتها:
أول
أمين عام للأمم المتحدة، النروجي تريغفي لي، لم يعتبر أن دور الأمين العام هو دور
محايد، بل دور مشارك في القرارات. فبالنسبة للحرب الكورية مثلاً، اعتبر لي أن
كوريا الشمالية هي المعتدي، ما أغضب الاتحاد السوفياتي وسبب له مشكلات كبيرة عند
تجديد ولايته الأولى سنة 1951 وبعدها. في هذه الأثناء، بدأ السيناتور الأميركي
جوزيف مكارثي حملته الشهيرة ضد الشيوعية في أميركا، فوصلت به الأمور إلى اتهام
موظفين في الأمم المتحدة بالتجسس لحساب الاتحاد السوفياتي. وصلت ضغوط مكارثي إلى
حد جعل كبير مستشاري تريغفي لي وصديقه الحميم آيب فيللر، ينتحر، ما سبّب له ألماً
كبيراً شكل سبباً إضافياً لاستقالته من منصبه سنة 1952، ولم يستطع أن يترك وراءه
أي إنجاز يُذكر.
اقترح
الاتحاد السوفياتي يومها أن تُسلّم الامانة العامة إلى «ترويكا» مؤلفة من ممثل عن
كل من الدول الغربية، والدول الشيوعية، ودول العالم الثالث، ولكن القرار في
النهاية كان في إيجاد أمين عام لا يسبب المشاكل التي سبّبها سلفه. وقع الاختيار
بعد مدة طويلة من المشاورات على داغ همرشولد، الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الـ45
سنة من العمر على افتراض أنه، بحسب سير بريان أوركهارت، أحد مؤسسي الأمانة العامة،
«لطيف، موظف حكومي سويدي كفؤ لا يهز المركب وليس مفرطاً باستقلاليته ولا يسبب
المشاكل. ولكن الحقيقة تقال إنه كان مفاجأة كبيرة خلال الثماني سنوات التي تلت
تعيينه إذ إنه كان كل شيء سوى ما انتظروه».
شهدت
الامانة العامة عصرها الذهبي في عهد همرشولد، من 1953 إلى 1961، وإلى حد ما في عهد
خليفته يو ثانت الذي دام حتى سنة 1971. أنشأ همرشولد الأمانة العامة من حوالي 4000
موظف على قاعدتين أساسيتين: أولاً عدم تدخل الدول في تعيينات الموظفين، وذلك من
أجل حماية الأمانة العامة من التوظيفات السياسية، وثانياً اختيار كبار الموظفين
الفنيين، كل في مجال اختصاصه، بعد استشارة القيادات الفكرية في ذلك الاختصاص
لإيجاد الشخص الذي يتمتع بالمعرفة الفنية والقدرة الإدارية. هذا ما ورثه يو ثانت
وأكمل العمل على أساسه.
كان
للأمانة العامة التي أسسها همرشولد احترام كبير على المستوى الدولي. وكان لكلام
الامين العام صدى واسع، كثيراً ما كان يتجاوز صدى كلام رؤساء الدول الكبرى في
المحافل الدولية. واستطاعت الأمانة العامة، من خلال نوعية دراساتها للمواضيع
المطروحة، والاحترام الدولي لها ولأمينها العام، وليس من خلال المواجهة، كما في
عهد تريغفي لي، أن تُدخل المفاهيم العلمية في القرارات المتخذة من قبل الجسم السياسي،
بدلاً من أن تكون هذه القرارات فقط نتيجة تسويات لصراع مصالح بين الدول الكبرى.
مثال
واحد أورده هنا لتوضيح هذه الفكرة. فخلال ما سمّيته العصر الذهبي للامانة العامة
(1953-1971) نالت نحو أربعين دولة إفريقية ودول نامية أخرى في أميركا اللاتينية
وآسيا استقلالها ودخلت في منظومة الامم المتحدة. الموضوع الأكبر في الامم المتحدة
أصبح في حينه تنمية العالم الثالث.
كان
الفكر الاقتصادي الإنمائي الطاغي يومها، بخاصة في ما يتعلق بالعلاقة بين الشمال
والجنوب، هو الفكر الكلاسيكي، بالأخص فكر دايفيد ريكاردو وأطروحته حول ما يُسمّى
«الميزة المقارنة» (comparative advantage) التي تقول بأن كل دولة
يجب أن تركّز مواردها على الانشطة الاقتصادية التي لديها فيها أفضلية في الإنتاج
على بقية الدول، وأن تُبادل الفائض مع الدول الأخرى. ترجمة ذلك على أرض الواقع كان
أن تركز الدول النامية على المواد الأولية والزراعة التي تشكل إنتاجها الرئيسي،
وأن تبادل فائضها من تلك المنتوجات بالمنتجات الصناعية التي تنتجها الدول
المصنّعة. المؤسسة الدولية الرئيسية التي كانت تُعنى بقضايا التبادل التجاري، كانت
الـ «غات» أي «الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارية» التي تأسست سنة
1947، وكان هدفها الأساسي تثبيت النظام الاقتصادي النيوليبرالي المتبع بعد الحرب
العالمية الثانية وفتح الأسواق وإنهاء سياسة الحماية الجمركية.
في
هذا الوقت، ظهرت مدرسة اقتصادية جديدة معارضة للفكر النيوليبرالي في موضوع التبادل
التجاري مبنية على أفكار شخصين هما راوول بريبش وهانس سينغر، كلاهما من كبار موظفي
الأمانة العامة للأمم المتحدة. «أطروحة سينغر ـ بريبش»، كما سمّيت في حينه، أظهرت
أن التبادل التجاري بين المنتجات الأولية والزراعية للدول النامية (أي دول الأطراف
بحسب الأطروحة) والمنتجات الصناعية للدول المتقدمة (أي دول الوسط) هو لمصلحة
الأخيرة، وأن تطبيق النظام النيوليبرالي في هذا المجال سيزيد الفارق في الدخل
والنمو بين دول الوسط ودول الأطراف. لذلك، فعلى البلاد النامية أن تطوّر صناعاتها
وأن تحميها لمدة تخوّلها الوقوف في وجه صناعات دول الوسط وأن تنافسها في الأسواق
الدولية، ما يتعارض مباشرة مع سياسة الـ «غات»، أي سياسة إنهاء الحماية الجمركية،
على الأقل بالنسبة للدول النامية.
هذه
الفكرة الصادرة عن أمانة عامة ذات مصداقية واسعة أعطت زخماً كبيراً للدول النامية
الجديدة العضوية في الأمم المتحدة، ما أجبر المنظمة على الدعوة لمؤتمر للدول
الأعضاء في جنيف سنة 1964 حول التجارة والتنمية، انبثقت عنها مؤسسة دولية تحت اسم
«مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» (UNCTAD)، كما تم في نهايته تأسيس «مجموعة الـ 77» المؤلفة من 77 دولة
نامية (أصبح عددها اليوم 134)، هدفها الرئيسي تعزيز القوة التفاوضية للدول النامية
بما يتعلق بجميع قضايا الاقتصاد الدولي داخل الأمم المتحدة. أما المنظمة نفسها، أي
UNCTAD، فسريعاً ما أصبحت منظمة متخصصة من منظمات الأمم المتحدة ذات
تأثير كبير داخل الأمم المتحدة وخارجها، من أهدافها الأساسية الحماية الجمركية
للصناعات الناشئة في الدول النامية.
بدأت
الأمور تتبدّل بسرعة بالنسبة لدور الأمانة العامة للأمم المتحدة بعد انتهاء عهد يو
ثانت وبدء عهد كورت فالدهايم سنة 1972 الذي دام تسع سنوات. تريغفي لي اضطُر إلى
الاستقالة عندما أغضب الدول العظمى بسبب استقلاليته ومساندته دولاً صغرى على حساب
مصالح المعسكر الشيوعي ثم المصالح الأميركية، وكل التحقيقات المستقلة تقول إن
همرشولد قُتل لأنه لم يستجب للضغوط الدولية من الشرق والغرب، فتعدّى باستقلاليته
على مصالح الجهتين (إقرأ كتاب «مَن قتل همرشولد؟» للكاتبة سوزان ويليامز الذي دفع
الأمم المتحدة إلى إعادة فتح التحقيق في مقتل الأمين العام). حاول يو ثانت جاهداً
أن يكمل طريق همرشولد في الحفاظ على نوعية الأمانة العامة وابتعد عن مواجهة الدول
العظمى في الأمور السياسية. أما فالدهايم، فلم يستطع مواجهة أيّ من الضغوط،
فتحوّلت الأمانة العامة إلى «سكريتاريا» بالمعنى الضيق للكلمة، فخسرت الأمانة
العامة الكثير من نوعية موظفيها وريادتها ومصداقيتها، وبالتالي قدرتها على
المشاركة الفعلية في صنع القرارات، ولم يعد باستطاعتها أن تنشط لحماية مصالح الدول
الصغرى. أما تأثير الأمين العام على الأحداث الدولية فلم يعد يشبه، ولو من بعيد،
تأثير همرشولد أو حتى يو ثانت. وقد يكون ذا دلالة في هذا السياق ما تتداوله بعض
المواقع على الإنترنت من أن الأمين العام الحالي، بان كي مون، قد أعرب عن قلقه 140
مرة (البعض يقول 180 مرة) من أحداث جلل تهدّد الأمن والسلام الدوليين، منها «قلق
عميق» (مثلاً حول مشكلات الاحتباس الحراري) أو «قلق» عادي (مثلاً حول بناء
المستوطنات في فلسطين).
في
مقالة نشرت في «نيويورك تايمز» حديثاً، بقلم الأمين العام السابق كوفي أنّان
ونائبته غرو بروندتلاند حول إصلاح الأمم المتحدة، نجد فكرة تتعلق بتحسين نوعية الأمين
العام من خلال آلية جديدة يقترحانها لاختياره، عوضاً عن المساومات السياسية
الحالية بين الدول الكبرى. ولكن الأمم المتحدة التي تأسست على أساس هيمنة الدول
الكبرى عليها، إذ أعطيت هذه الدول حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، حيث تؤخذ
القرارات الملزمة، وعضوية دائمة فيه، كما أعطيت الحصة الكبرى من الأصوات في
المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، لن تتنازل عن
قدرتها على اختيار الأمين العام والهيمنة على التوظيف في الأمانة العامة، ولن تسمح
في أي حال من الأحوال إعادة تجربتها مع أمثال داغ همرشولد، مهما كلفها الأمر. فالأمم المتحدة اليوم عادت بالفعل إلى النسق الذي رسمته
لها الدول الكبرى عند تأسيسها ولم تكن حقبة همرشولد ويو ثانت سوى حالة شاذة عابرة،
ولو انها تمثل العصر الذهبي للمنظمة.
English Summary:
I tell in this article the
story of the decline of the effectiveness of the UN, mainly but not solely, in
its developmental work due to the loss of quality and credibility of the
Secretariat , due in turn to the decline in the quality of the Secretary
General.
The first SG, the Norwegian
Trigve Lie, angered both superpowers at the time and was forced to resign without
having left behind any major accomplishment.
The Soviets insisted on a
Troika of SGs (from East, West and developing countries) but it was finally
decided to have a SG who does not create problems. They found the young Dag
Hammarskjold (45 years), who supposedly would not “rock the boat” and would not
be “too independent.” But “ he was anything but what they expected,” says Sir
Brian Urquhart , one of the main actors in the establishment of the
Secretariat.
The Secretariat saw its
golden years under Hammarskjold (1953-1961) who created a small body of 4000
persons chosen independently of political pressures and generally led by highly
valued technical people with proven administrative skills. The Secretariat’s
credibility soared internationally and the statements of the SG had greater
acceptance by people internationally than statements by leaders of both East
and West. U Thant inherited this situation and tried to continue in the same
vein without confronting the major powers till the end of his mandate in 1971.
The right hand arm of both SGs was Ralph Bunch the Nobel prize laureate. The
Secretariat was, therefore, through the quality of its work and its
credibility, able to influence major decisions not leaving them exclusively to
political haggling between countries.
One example will illustrate
this situation: During the “golden period” of the UN (1953-1971) some forty
countries from Africa and other continents received their independence and
joined the UN. The issue of the day became economic development.
The main economic approach
to development at the time was based on the thinking of the classical
economists, in particular on Ricardo’s thesis of “comparative advantage,”
whereby each country should concentrate on the production it has an advantage
in and trade the surplus with other countries. This meant in practice that the
developing countries should concentrate on agriculture and natural resources
development and the developed countries on manufacturing. The GATT which was
created in 1947 had for aim to elimination of all protectionist policies and
opening the world to free trade.
A new economic school arose
at the time around what was called the “Singer Prebisch” thesis. Singer
happened to be a senior economic adviser in the Secretariat and Prebisch the
head of the UN Economic Commission for Latin America. What the thesis
demonstrated was that this situation will result in widening the gap between
rich and poor countries since the productivity in manufacturing is
greater than in agriculture and because of the resulting worsening of the terms
of trade between the two groups to the detriment of the developing countries.
Therefore, it is essential for these countries to develop their industrial base
and to protect it until it can compete with the well-established counterpart in
developed countries; this, of course, was anti-GATT and protectionist. The
power of this idea, and the credibility of its authors and the Secretariat they
belonged to, and the international weight of the Hammarskjold, forced the UN to
organize a conference on the subject which ended in the creation of an
organization called the United Nations Conference on Trade and Development
(UNCTAD), whose aim was to help the developing countries in their protectionist
policies. At the end of the conference was also established the “Group of 77”
developing countries to help them to improve their bargaining position on all
international economic matters. The first head of UNCTAD was none other than
Raul Prebisch.
Trigve Lie was pushed out
because of his independence. And all recent investigations into the death of
Hammarskjold, whose plane was shot down over the Congo, indicate that he was
killed also because of his independence and resistance to political pressures
(read the recent book: Who Killed Hammarskjold) by Susan Williams which forced
the UN to reopen the investigation of Hammarskjold’s death after over 50 years
of the event). Then came Kurt Waldheim who could not resist the political
pressures on appointments to the Secretariat which rapidly lowered its level of
competence and reduced its credibility, making it incapable of exerting any
influence on major decisions of the UN. Suffice to mention that the
present SG has already expressed his “concern” regarding major situations
affecting world peace and security 140 times (some say 180), “deep concern”
sometimes (e.g. on global warming) and plain “concern” sometimes (e.g. the
building of settlements in occupied territories by Israel), making him look
like an observer than a major player.
There are calls to improve
the quality of the SG by changing the method of electing him different from the
present big power haggling (lately by former SG Coffee Annan in the New York
Times), but it is certain that the major powers at the UN will never accept the
likes of Hammarskjold again. The UN, in fact, has come back to the image that
its founders wanted it to be and the episode of Hammarskjold and U Thant was
nothing but an aberration, even though it represented its golden years.