فرح
كانون الأول 2021
رابطة أصدقاء كمال جنبلاط
أميركا لا تنوي
الانسحاب من الشرق الأوسط
رياض طبارة
بعد انسحاب أميركا
الكارثي من أفغانستان في تشرين الأول الماضي، تعالت الأصوات بأن الرئيس الأميركي
جو بايدن قرر الانسحاب من الشرق الأوسط للتركيز على الشرق الأقصى ومواجهة التوسع
الصيني، الاقتصادي والعسكري، في تلك المنطقة. كتب توماس فريدمان في النيويورك
تايمز يومها أن رسالة بايدن التي أرسلها من خلال هذا الإنسحاب إلى حلفاء أميركا
العرب في الشرق الأوسط هي: "أنتم في المنزل لوحدكم. إذا كنتم تبحثون عنا
فستجدونا في مضيق تايوان. أرسلوا لنا البترول. وداعا." فكرة انسحاب أميركا من
الشرق الأوسط انتشرت أيضا في الإعلام اللبناني وخلقت تخوفا بأن أميركا ستترك لبنان
لحاله وبالتالي لن يكون هناك لا صندوق نقد دولي ولا مبادرات غربية للإنقاذ تعتمد
على المساندة الأميركية الضرورية. هذا ما جعل السفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي
شي، تردد مرات عدة بأن "أميركا لن تتخلى عن لبنان."
مقولة أن أميركا ستنسحب
من الشرق الأوسط بدأت منذ عهد الرئيس باراك أوباما الذي كان قد أعلن في حملته
الرئاسية الأولى سنة 2008 بأن سياسة سلفه جورج بوش الإبن، بالإنخراط في قضايا
الشرق الأوسط، وبدء حروب في أفغانستان والعراق، كانت خاطئة، وأن الخطر الأكبر
لأميركا مصدره الصين وتدخلاتها في المنطقة. هذه الفكرة تبلورت بعد زيارة أوباما
التاريخية في تشرين الثاني 2011 إلى شرق آسيا وسميت في حينه، وما زالت،
"الإستدارة" (Pivot). ما أعطى فكرة الـ"إستدارة"
مصداقية كبيرة في ذلك الوقت كان أن أوباما خفّض في عهده عديد القوات الأميركية في
ساحات الحروب من 150000 مقاتل إلى 14000 مما ترك انطباعاً بأن سياسة أميركا
الخارجية في عهد أوباما ستركز على الدبلوماسية وتخفف من المواجهات المسلحة. ولكن حقيقة
الأمر كانت غير ذلك. فسلاح الجو الأميركي في عهد أوباما قام بغارات على مواقع في
أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وصوماليا وباكستان، والقوات المسلحة
الأميركية خاضت حروبا طوال الثماني سنوات التي شكلت عهد أوباما ما جعل أوباما،
بحسب صحيفة لوس أنجلس تايمز، الرئيس الأميركي الوحيد الذي يتمتع بهذه الميزة. يقول
أحد خبراء مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية في واشنطن أن عقيدة الحرب هي التي
تغيرت في عهد أوباما وذلك من خلال اتكال أكبر على التكنولوجيا الحربية، كالإستعمال
المكثف للطائرات المسيّرة (درون) التي خففت من الخسائر البشرية ولكنها أدخلت
أميركا في حروب نهاياتها بعيدة المنال.
ورغم الخلاف العقائدي
والشخصي بين باراك أوباما وخلفه في الرئاسة دونالد ترامب، ورغم محاولة ترامب إبطال
كل مفاعيل سياسة أوباما الخارجية، بدأً بالإنسحاب من "اتفاق الشراكة عبر
المحيط الهادئ" (Trans-Pacific Partnership Agreement)، ما سمح للصين بملئ الفراغ منطقة شرق آسيا،
فإنه تبنى سياسة أوباما فيما يخص الـ"إستدارة" وأعلن أنه سيسحب القوات
الأميركية من سوريا في تشرين أول سنة 2019 وثم من أفغانستان في الأول من أيار 2021
، لكي تتفرغ أميركا لمواجهة الصين في الشرق الأقصى. عندها أيضاً ضجت وسائل الإعلام
الغربيبة والمحلية مرة أخرى بخبر انسحاب اميركا من الشرق الأوسط ولكن ذلك لم يحصل
هذه المرة أيضاً. ألقوات ألأميركية ما زالت في سوريا والانسحاب من أفغانستان حصل
في عهد خليفته بايدن وانتهى، ليس بانسحاب القوات الأميركية إلى خارج الشرق الأوسط،
بل بإعادة تموضعها داخل المنطقة.
وفي كانون الثاني سنة
2021 استلم جو بايدن سدة الرئاسة في أميركا وبدأ مباشرة بإبطال مفاعيل سياسات سلفه
ترامب الخارجية، تماماً كما فعل أوباما بالنسبة لسياسات سلفه بوش الإبن، ولكنه
أبقى على سياسة االـ"إستدارة". أعلن بايدن، بالتوازي مع رئيس وزراء
العراق مصطفى الكاظمي، بأن أميركا ستسحب قواتها من العراق في آخر سنة 2021. ولكن
سرعان ما جاء التفسير بأن القوات الاميركية ستبقى بكاملها في العراق ولكن بهدف
"تدريب القوات العراقية وتقديم المشورة، وتبادل المعلومات الاستخبارية،
وتوفير الغطاء الجوي للقوات العراقية". هذا "الانسحاب" المزعوم لم
يمر بالطبع على أحد. النيويورك تايمز وصفته بـ "المسرحية الدبلوماسية"
وموقع "صابرين" الناطق باسم "المقاومة العراقية" (عصائب الحق
بالدرجة الأولى)، من الجهة الأخرى، اعتبر التغيير في مهمات القوات الأميركية
"حبر على ورق."
وسط كل هذا التلويح
المتكرر بالـ "إستدارة"، كانت أميركا تثبّت وجودها العسكري في الشرق
الأوسط، بخاصة في الدول العربية. فبحسب "مشروع الأمن الأميركي"(American Security
Project)، المرجع ذات المصداقية في هذا المجال، يتجاوز عدد هذه القواعد
(البحرية والجوية) الثلاثين قاعدة (بعض الخبراء يقولون ألخمسين) يتم توسيعها حسب
الحاجة، وقد تم توسيع بعضها مؤخراً في إطار الحرب ضد الإرهاب ومواجهة داعش في
المنطقة. أضف إلى ذلك وجود الأسطول الخامس في مياه الخليج الذي يتألف من حوالي
عشرين قطعة بحرية، وهذا العدد يزداد أو ينقص بحسب الحاجة. بناءً عليه لايظهر من
هذا أن أميركا هي في طور الانسحاب من المنطقة بل بالعكس هي تكثف وجودها الجوي
والبحري فيها.
حقيقة الأمر هو أن
أميركا لا تستطيع الانسحاب من الشرق الأوسط حتى لو أرادت قياداتها ذلك. أوباما
وترامب وبايدن كلهم أرادوا الانسحاب والـ "إستدارة" إلى شرق آسيا
لمواجهة الخطر الصيني المتصاعد ولم يفلحوا. الأسباب الموجبة لذلك كثيرة نذكر هنا
بعض أهمها:
أولاً: رغم ما قيل عن
أن أميركا أصبحت مكتفية بترولياً، فقد احتاجت مؤخراً لأن تبيع من مخزونها
الاستراتيجي للحد من ارتفاع أسعار البترول العالمية. ألأهم من ذلك هو أن حلفاء
أميركا لا يستطيعون الاستغناء عن البترول العربي. فأكثر من ربع البترول الذي
تستهلكه أوروبا يأتي من بلدان عربية، غالبيته من العراق والمملكة العربية
السعودية. كل استهلاك اليابان من البترول تقريباً مصدره الخليج العربي. إسرائيل
التي كانت تتكل على أذربيجان وروسيا وكازاحستان لتأمين جاجتها من البترول بدأت
تتحول نحو بترول الخليج العربي بعد اتفاقات أبراهام. المنظومة الدفاعية الأميركية
تنهار في حال انقطاع البترول العربي عنها.
ثانياً: أي انسحاب
عسكري أو سياسي لأميركا من الشرق الأوسط سيترك فراغاً في المنطقة ستسارع روسيا
وإيران وغيرهما من أعداء أميركا المفترضين لملئه وهذا ما ستعارضه بشدة المنظومة
السياسية الأميركية بما في ذلك الكونغرس الأميركي بشقيه الديموقراطي والجمهوري
والإدارات العسكرية والإستخباراتية كالبنتاغون والأمن القومي.
ثالثاً: لعل الأهم من
كل ذلك هو أن إسرائيل، ومن ورائها اللوبي الإسرائيلي ، لن تسمح للإدارة الأميركية
بأن تنسحب من الشرق الأوسط وتترك إيران لملئ الفراغ. إسرائيل تتابع المفاوضات
الِأميركية الإيرانية بشكل يومي خوفاً من أن يتساهل بايدن مع إيران لرفع شعبيته
المتراجعة، وتعترض على كل شاردة وواردة لا تناسبها، لدرجة أنها بدأت تزرع خلافات
بين أميركا وشركائها في المفاوضات. وحتى في غياب الخطر الإيراني فأن إسرائيل تعتبر
أن وجود أميركا العسكري في المنطقة هو ضرورة لها ولن تقبل بتقليصه.
على كل حال، فالـ
"استدارة" ليست فقط غير ممكنة بل كثير من المراقبين الأميركيين
يعتبرونها غير ضرورية أيضاً. فلدى أميركا قوات كبيرة في شرق آسيا بما في ذلك ما
لايقل عن 120 قاعدة حربية في اليابان وأكثر من 70 قاعدة في كوريا الجنوبية
بالإضافة إلى عشرات القواعد في دول أخرى في المنطقة. وإذا أرادت إضافة قوات هناك
فلديها أكثر من 170،000 عنصر منتشرين حول العالم. هذا يوحي بأن زيادة إهنمام
أميركا بمنطقة ما، لا يتطلب بالضرورة انسحابها من منطقة أخرى؟
https://farah.kamaljoumblatt.com/articles/5280