في انتظار غودو: المفاوضات الأميركية الإيرانية
27-01-2022 | 00:00 المصدر: "النهار"
رياض طبارة*
"إستراغون: "هيا نذهب."
فلاديمير: "لا نستطيع."
إستراغون: "لما لا؟"
فلاديمير: نحن بانتظار جودو."
-صمويل بيكيت: بانتظار غودو 1952
عندما تسلم دونالد ترامب الرئاسة الأميركية في كانون الثاني من سنة 2017، كانت
تتحكم بأفكاره ثلاثة مبادئ رئيسية: الإنقلاب على أنجازات سلفه باراك أوباما،
وتفكيك التحالفات المتعددة الأطراف كالاتحاد الأوروبي والناتو واستبدالها بتحالفات
ثنائية، وتبيان أنه هو أكبر العارفين بـ "فن الصفقات"، عنوان كتابه
الشهير. هذه المبادئ الثلاثة تجمعت كلها في #الاتفاق النووي ال#إيراني. فالاتفاق الذي كان قد أبرم في تموز 2015،
إي في أواخر عهد أوباما، يعتبر أهم إنجاز لهذا الأخير في مجال السياسة الخارجية،
كما أنه متعدد الأطراف بامتياز إذ أنه وُقّع بين إيران وستة دول (ما سمي بالخمسة
زائد واحد) وصدّق عليه مجلس الامن الدولي بموجب قرار رقم 2231، واعتبر ترمب أن
بقدرته انجاز صفقة أفضل في هذا المجال تظهر، بدون أي شك، قدرته الكبيرة على إنجاز
صفقات يعجز عنها الآخرون. لذا لم يشكل انسحاب ترمب من هذا الاتفاق، في أيار 2018،
مفاجأة للعارفين بشخصيته وأفكاره.
ثلاثة أمور أراد ترامب أن يدخلها إلى الاتفاق: أن يصبح مستداماً بدلا من مؤقت، وأن
يشمل تحديدا صارماً لبرنامج الصواريخ الإيراني، وتحجيماً للدور الذي تمارسه إيران
في الشرق الأوسط، خاصة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، من خلال دعم مجموعات شيعية
مسلحة في هذه البلدان.
أعاد ترامب في تشرين الثاني من سنة 2018 كل العقوبات التي كانت قد رفعتها أميركا
عن إيران بعد توقيع الإتفاق، وأعلن ترامب، في الوقت ذاته، أنه يريد بدء مفاوضات
جديدة مع إيران للتوصل إلى اتفاق موسع. انتظر ترامب لأشهر عدة عودة إيران إلى
طاولة المفاوضات ولكن الإيرانيين لم يستجبوا. عندها تبنّت إدارة ترامب سياسة
"الضغوط القصوى" التي تمثلت بسلسلة من العقوبات المؤلمة.
سلسلة العقوبات هذه بدأت في نيسان 2019 بإعلان الحرس الثوري الإيراني منظمة
إرهابية، وكذلك مؤسسات وأشخاص ذات صلة به، بما في ذلك المرشد الأعلى علي خامنئي،
بصفته القائد الأعلى للحرس الثوري. تبع ذلك عقوبات على مؤسسات أخرى ذات طابع
إقتصادي وصولاً إلى البنك المركزي الإيراني ومجموعة واسعةً من المصارف الإيرانية.
حاول ترامب استدراج إيران المنهكة إقتصادياً إلى طاولة المفاوضات قبل الانتخابات
الرئاسية في تشرين الثاني 2019 بتصريحات وتغريدات على تويتر يعد فيها الإيرانيين
أن الإتفاق الجديد سيجلب لهم المن والسلوى وأنه على كل حال سينجح في الإنتتخابات
ما يجعل انتظار نتائجها غير مجد. ولكن الإيرانيين بقوا على عنادهم. وعندما فشل ترامب
في الانتخابات قام بعمل شمشوني لم يكن قد وافق عليه سلفاه، أوباما و بوش الإبن، أي
اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري في 3 كانون الثاني 2020.
وكما انسحب ترامب من الإتفاق النووي الإيراني الذي كان قد وقعه سلفه أوباما، أراد
جو بايدن العودة إلى الإتفاق. كانت هناك محادثات قائمة بين إيران والدول الموقعة
على الإتفاق (الصين، روسيا، فرنسا، ألمانيا وإنكلترا) لإعادة إحيائه فدخلت أميركا
على هذه المحادثات، بشكل غير مباشر. واليوم، بعد ما يقارب السنة، ما تزال
المحادثات تراوح مكانها.
المحادثات القائمة تتركز، كما يقول أحد خبراء "مجموعة الأزمات الدولية،"
المؤسسة الفكرية المعروفة، على ثلاثي "العقوبات، والنووي، وتسلسل
الإجراءات." بمعنى آخر، فالمحادثات الجارية تتعلق بتسلسل الخطوات المتبادلة
فيما يخص رفع العقوبات الأميركية من جهة وتراجع إيران عن مخالفات للإتفاق ارتكبتها
بعد الإنسحاب الأميركي. هذه العملية معقدة، ليس فقط بما يخص تسلسل الخطوات
المتبادلة، بل أيضاً لأن العقوبات لا تتعلق كلها بالبرنامج النووي وبعضها متعدد
الأهداف، ولأن هناك خلاف بين الفريقين على ما يشكل مخالفة إيرانية للإتفاق.
لا شك أن إيران تعلم أن إنتاجها لقنبلة نووية غير مسموح به دولياً، في الوقت
الحاضر أو المستقبل المنظور. هذا ليس فقط مطلب أميركا وحلفائها في المنطقة،
إسرائيل والسعودية مثلاً، بل حلفاء أميركا الأوروبيين وغيرهم. ولعل الأهم هو أن
روسيا والصين، أصدقاء إيران داخل المجموعة الموقعة على الاتفاق، لا تريدان إيران
نووية. فروسيا لها حدود مشتركة مع إيران (في بحر قزوين) والصين لا ترحب بقوة نووية
جديدة في آسيا. تقارب هذين البلدين مع إيران اليوم لا يعني طبعاً تقارباً في
المستقبل. روسيا والصين لا شك تتذكران بأن أميركا كانت المعين الأكبر في تأسيس البرنامج
النووي الإيراني في خمسينات القرن الماضي وزودت إيران بأول مفاعل نووي والوقود
اللازمة له، وحتى باليورانيوم المخصب للإستعمال الحربي.
لماذا إذا تماطل إيران في الوصول إلى اتفاق جديد، علماً بأنها تشكو منذ سنوات من
ضائقة إقتصادية صعبة؟ السبب الرئيسي لذلك هو الإنتخابات النصفية الأميركية في
تشرين الثاني القادم. فإذا نجح الجمهوريون في الوصول إلى أغلبية في مجلسي النواب
والشيوخ، وهناك إمكانية كبيرة بذلك، أقله بالنسبة لمجلس النواب، فإن عقارب الساعة
في المحادثات ستعود إلى الوراء، لربما إلى أيام ترامب. وماذا أيضاً عن نتائج
الانتخابات الرئاسية سنة 2024 التي سيخوضها ترامب كما يبدو؟ لذا تصر إيران على
الحصول من إدارة بايدن على تعهدات بأن أي اتفاق تتوصل إليه اليوم لن يتغير مع تغير
الحزب الحاكم كما في السابق. هذه عقدة مهمة في المحادثات الجارية لأن بايدن لا
يستطيع دستورياً أن يعد بذلك. جل ما يستطيع أن يفعله هو محاولة ربط إي تغيير في
الموقف الأميركي تجاه الإتفاق بموافقة غالبية مجلسي الكونغرس، ما يجعل الإنسحاب
الأميركي أصعب ولكن غير مستحيل.
ولكن ماذا عن المطلب الأميركي بتضمين الإتفاق مسٍألتي تحجيم البرنامج النووي
الإيراني وإلغاء دور الميليشيات المتحالفة معها؟ هذا ما أرادته إدارة ترامب وما
وعد به بايدن. والكونغرس الأميركي، بغالبية شقيه، الجمهوري والديموقراطي، يعتبر أن
هاتين المسألتين هما بأهمية باقي بنود الإتفاق. وكذلك حلفاء أميركا في المنطقة، في
طليعتهم السعودية وإسرائيل.
لم تعد أميركا تصر على تضمين الإتفاق هذين الأمرين لأنها تعتبر أن المحادثات بهذا
الشأن ستتطلب وقتاً طويلاً تقوم خلاله إيران بالتخصيب إلى درجات مرتفعة تقرّبها
بشكل خطير من إنتاج قنبلة نووية. هذا لا يعني أن أميركا تخلت عن هذين االمطلبين.
الحل لهذه االعقدة قد يكون في تحويل هذا الملف إلى المستوى الإقليمي برعاية
أميركية. وبالفعل بدأت تحركات على هذا المستوى تواكب وتكمل المسار الدولي
للمفاوضات النووية. في طليعة هذه التحركات فتح باب المفاوضات المباشرة بين
السعودية وإيران التي بدأت في أوائل تشرين الأول من السنة الماضية، بترحيب علني
أميركي، وقد أنجز منها أربع جولات حتى اليوم، والجولة الخامسة ستعقد قريباً. بوادر
التقدم في هذا المسار ظهرت بأشكال عدة منها دعوة إيران للإشتراك في اجتماعات منظمة
التعاون الإسلامي بعد إقصائها منه سنة 2016، ووصول رسميين إيرانيين في كانون
الثاني 2022 إلى الرياض لإعادة فتح مكاتب إيران للمنظمة. هذه الإيجابيات لا تعني
بالطبع أن نهاية هذه المحادثات الإقليمية أصبح في متناول اليد فهي، كمثيلتها على
المستوى الدولي، ما زالت في بداية مسار طويل.
هناك عبرة للبنان في كل هذا. المحادثات الدولية حول البرنامج النووي الإيراني ما
زالت عالقة. وحتى لو نجحت جزئياً أو كلياً، فإنها لن تتطرق أو تحل مشكلة
الميليشيات المتحالفة مع إيران، بل قد تزيدها تعقيداً لأنها ستحرر أموالاً قد
تستعملها إيران لدعم هذه الميليشيات. المحادثات الإقليمية المكملة التي تعنى
بعلاقة إيران مع دول الجوار ما زالت هي الأخرى في بداياتها. وفي كل الأحوال، فإن
مصير أي اتفاق بهذا الشأن قد يتأثر سلباً بنتائج الانتخابات النصفية الأميركية في
تشرين الثاني القادم، ولربما أيضاً بالانتخابات الرئاسية سنة 2024. لذلك فانتظار
نهاية هذه المسيرة كي توفر الحل لمشاكل لبنان هو انتظار عبثي يذكر بمسرحية بيكيت
المذكورة في فاتحة هذا المقال. إستراغون وفلاديمير في هذه المسرحية أضاعا وقتهما
في انتظار أن يأتي الخلاص على يد قادم مجهول إسمه غودو، وغودو لم يأت في نهاية
المطاف.
*سفير لبنان في واشنطن سابقا