Tuesday, May 30, 2023

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

  


النهار

09-05-2023

 

الخلفية الفكرية للحرب الأوكرانية

رياض طبارة[1]

 

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في أوائل سنة 1990، دخلت روسيا في سبات عميق لعشر سنوات. عند الانهيار كان فلاديمير بوتين يعمل، منذ خمس سنوات، أي طيلة عهد ميخائيل غورباتشوف، كضابط في الـ كي جي بي، جهاز الاستخبارات السوفياتي، في ألمانيا الشرقية، حيث كانت مهمته الروتينية تجنيد وتنظيم عملاء للمخابرات في منطقة عمله. انهار حائط برلين وعمت التظاهرات شوارع مدينة درسدن حيث كان مكتبه، ودخل الناشطون الى مكاتب مخابرات المانيا الشرقية، ستازي، المقابلة لمكاتب الـ كي جي بي، فأتصل بوتين هاتفياً بفصيل الدبابات السوفياتي العامل في المدينة طالباً الحماية، فجاءه الجواب بأن الفصيل لا يستطيع التحرك دون أوامر من موسكو. وأضاف محدثه: "وموسكو صامتة." خرج الضابط بوتين لملاقات المنتفضين وقال لهم، بحسب أحدهم: "لا تدخلوا المبنى.الرفاق في الداخل مسلحون ولديهم تعليمات باستعمال سلاحهم  عند الضرورة." اقتنعت المجموعة المنتفضة وغادرت المكان. عاد بوتين الى الداخل وبدأ ورفاقة حرق الملفات السرية. "لقد حرقنا كمية هائلة من الأشياء حتى انفجر الفرن،" قال بوتين لاحقا.

"موسكو صامتة." كلمتان أثرتا بالضابط الشاب، البالغ من العمر 37 سنة، أكثر من أية كلمات أخرى، كما يجمع عليه مؤرخوا هذه الحقبة. كان لما حدث له في درسدن خلال خدمته هناك أثر كبير في تركيبة شخصيته.

عاد بوتين من درسدن إلى بطرسبرغ ، مسقط راسه، في أوائل التسعينات غاضباً على ما آلت إليه الأمور في بلاده ومصمماً على الوصول الى موقع يخوّله إعادة بنائها، ولكن هذه المرة موسكو لن تكون صامتة. كان النموذج الأول في فكره هو الإتحاد السوفياتي وعظمته. كان كالكثيرين من الروس معجب بلينين وعودته المظفرة الى بطرسبرغ لقيادة الثورة الشيوعية، كما فعل هو من درسدن. حتى وحشية لينين (وستالين من بعده) في تعامله مع الرفاق ونزعته التوسعية لم تزعجا بوتين بل زادتاه إعجابا. أضف الى ذلك العلاقة التاريخية التي ربطتهما، إذ كان سبيريدون بوتين، جد فلاديمير، الطاهي الخاص للينين (ومن بعده ستالين). ولكن رغم ذلك لم يكن الاتحاد السوفياتي هو نموذجه المفضل في تاريخ روسيا بل العهود القيصرية وخاصة عهد القيصر بطرس الكبير الذي أسس الإمبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر. ففي تصريح له سنة 2016 ، بعد أيام من الاحتفال بذكرى وفاة لينين، قال بوتين إن قتل القيصر نقولا الثاني وأسرته، وخدمه، وألاف من الكهنة، وضعت قنبلة موقوتة تحت الدولة الروسية.  

ولكن شخصية بوتين لا تُختصرفقط بإعجابه للحقبة الشيوعية، أو حتى بتعطشه للامبراطورية الروسية، دون التطرق بشكل أساسي لتأثره بفلسفة صديقه الكسندر دوغين، الملقب بـ "عقل بوتين."  ثلاث أفكار لدوغين هي الأهم في هذا السياق. ألفكرة ألاولى هي التي طرحها دوغين في كتابه "النظرية السياسية الرابعة" والتي يرفض فيها الديموقراطية الليبرالية التي ترتكز على الفردية (individualism)، والشيوعية التي ترتكز على الطبقية (class)، والفاشية التي تضع الوطن فوق الجميع. بالمقابل، فالنظرية  السياسية الرابعة، التي أسماها دوغين "الثورة المحافظة" (revolutionary conservatism)، فتؤمن بالتعددية في إطار عالم أخلاقي، يحترم  التقاليد، وحرمة العائلة، وقداسة الأديان. ألنظام السياسي الذي يجب أن يحكم هذا المجتمع هو النظام "الديموقراطي أللاليبرالي" (Illiberal democracy) أي نظام ديموقراطي في مؤسساته كالإنتخابات، ولكن قوي بقيادته التي قد تتجاوز الدستور والقوانين عند الحاجة، ما قد يشبّهه البعض بديموقراطية المستبد العادل. فيكتور أوربان، الرئيس المجري المعروف بمساندته للنظام "اللاليبرالي" يعتبر أن الأمثلة على دول نجحت فيها الديموقراطية اللاليبرالية هي روسيا (بقيادة بوتين) وسنغافورة وتركيا والصين، بالإضافة طبعاُ الى بلده المجر، ولو ان البعض من هذه الدول قد لا يُعتبر ديموقراطياً حسب قوله.

الفكرة الثانية لدوغين في السياق نفسه هي ما يسمى "الاوراسية الجديدة." وتتلخص هذه النظرية الجيوسياسية بضرورة إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية التاريخية وضم دول أوروبا الشرقية إليها وصولا الى دول البلقان الاورثذكسية كخطوة أولى. ويركز دوغين في هذا المجال على ضرورة ضم جورجيا  لروسيا وشبه جزيرة القرم وكل أوكرانيا التي تصبح قسماً مما سماه دوغين "روسيا الجديدة" (Novorossia).الخطوة الثانية هي تأسيس الـ "الحلف الاوراسي،" أي حلف سياسي عسكري، يضم الهند والصين ومنشوريا وصولاً الى المحيط الأطلسي، يتحالف مع دول إسلامية، مستبعداً داعش التي يعتبرها أداة أميركية، وكذلك إسرائيل. "الحلف الأوراسي،" برأي دوغين، هو التجمع الوحيد الذي يستطيع الوقوف بوجه التجمعات الغربية، خاصة حلف الناتو، وأن يشكل القطب الثاني في الجيوسياسية العالمية.

الفكرة الثالثة لدوغين في هذا المجال هي ضرورة العمل على تفكيك الاتحادات الغربية، على رأسها الاتحاد الأوروبي، وإضعاف حلف الأطلسي.

سياسة بوتين الخارجية هي، الى حد كبير، انعكاس مباشر لافكار دوغين. الكثير من خطبه مقتبسة، بعضها حرفياً، من كتابات دوغين بما في ذلك تعبير "روسيا الجديدة". كتاب دوغين "أسُس الجغرافيا السياسية" (Foundations of Geopolitics)، الذي يشرح فيه بالتفصيل أفكاره حول الاتحاد الاوراسي وضرورة تفكيك الاتحادات الغربية، بخاصة حلف الناتو، هو أحد المراجع الرئيسية الرسمية في برنامج تدريب الجيش الروسي وعقيدته القتالية.

 عمل بوتين منذ استلامه الحكم على إضعاف الاتحاد الأوروبي ومن ورائه حلف الناتو. عدة مصادر تؤكد أن روسيا دعمت بأشكال مختلفة أنصار خروج إنجلترا من الاتحاد الأوروبي (بركزيت). كما تدعم الحركات اليمينية والانفصالية في دول أوربية عدة، منها حزب الحرية في النمسا، وحزب الليغا في إيطاليا، وحزب  التجمع الوطني (لوبين) في فرنسا.

وفي أول سنة 2015، أعلنت خمس دول (روسيا، أرمينيا، بيلاروس، كازاخستات وقيرغيزستان وبحضور مراقبين عن أوزبكيستان وكوبا) "الاتحاد الأوراسي،" على نسق الاتحاد الأوروبي. ورغم تأكيد بوتين في الاجتماع أن هذا الاتحاد ليس سوى اتحاد إقتصادي، أصر مندوب كزاخستان على زيادة التأكيد، لمنع أي لبس، بأن الاتحاد هو ذات منافع إقتصادية فقط وأضاف: "إننا لا نتدخل بما تفعله روسيا سياسيا وهم لا يستطيعون أن يقولوا لنا أي سياسة خارجية سنتبعها."

سلسلة من التوسعات الروسية داخل أوروبا كان دعى إليها دوغين حصلت بدأً من 2008 وحرب الخمسة أيام بين روسيا وجورجيا التي انتهت باحتلال روسيا لجنوب أوسيتيا وأبخازيا في جورجيا (يومها لام دوغين بوتين لانه لم يحتل العاصمة تبليسي) . في شباط سنة 2014 نجحت الثورة البرتقالية في أوكرانيا وتم الانقلاب في شباط على الرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بقرار برلماني مشكوك بدستوريته. وفي آذار احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها اليها. وفي الوقت نفسه بدأت انتفاضة الاثنيين الروس في مقاطعتي دونتسك ولوهانسك شرق أوكرانيا (منطقة الدونباس) بدعم روسي.

كانت حجة الروس أن كل ما حصل هو ليس توسعياُ بل عملية "تعديل في الحدود،" لأن انهيار الاتحاد السوفياتي، كما قال بوتين، كانت من نتائجه أن ملايين الروس وجدوا انفسهم خارج وطنهم الأم "ما شكّل مأساة إنسانية كبيرة."  فسكان جنوب أوسيتيا وأبخازيا أكثريتهم الساحقة من الإثنية الروسية. شبه جزيرة القرم هي تاريخياً قسم من الإمبراطورية الروسية ومن ثم الاتحاد السوفياتي "أهداها" خروتشيف لأوكرانيا سنة 1954 لأسباب سياسية منها صراعه مع مالينكوف على السلطة. ومنطقة الدونباس شرق أوكرانيا يقطنها روس أعلنوا استقلالهم من أوكرانيا بعد استفتاء أظهر أن الأغلبية الكبرى تريد الانفصال.

كانت سياسة أوروبا تجاه روسيا البوتينية إيجابية منذ البداية وكان جوهرها إدماج الاقتصاد الروسي بالأوروبي. بقيت كذلك حتى بعد التجاوزات الروسية المذكورة ورغم بعض العقوبات الأميركية الأوروبية الخجولة، التي فرضتها أوروبا وأميركا على روسيا. وكان هناك مجموعة كبيرة في الكرملين تتخوف من أفكار دوغين وتنبه بأنها ستجر روسيا الى العزلة. حتى أن كثر في الإعلام اليوم يعتبرون أن محاولة إغتياله في آب الماضي، التي أودت بحياة ابنته، داريا دوغينا، خطأً، كانت من قبل هذه المجموعة ومسانديها.

تغيرت نظرة الغرب التسامحية تجاه روسيا بعد الغزو الروسي لاوكرانيا في شباط  2022، إذ كان من الواضح أن الهجوم على العاصمة كييف، ومحاولة تغيير النظام في أوكرانيا لصالح روسيا، لم يكن تحركاً من نوع "تعديل الحدود" بل كان ذات أبعاد توسعية. ففي سنة 1997 كتب دوغين: "إن استقلالية أوكرانيا تشكل خطراً ضخماً لأوراسيا. يجب أن تصبح مقاطعة تابعة للإدارة المركزية الروسية." هذه الفكرة كانت موجودة في الأدبيات الروسية قبل بوتين، ولكن هذه المرة أصبحت رسمية إذ تبناها بوتين "بشكل كامل" بحسب النيويورك تايمز (22 آذار 2022). ففي سنة 2013 قال بوتين "إن أوراسيا هي منطقة جيوسياسية رئيسية في العالم،" حيث سيتم فيها الدفاع عن الـ "كود الجيني" الروسي وعن الإثنيات الأخرى، ضد "الليبرالية الغربية المتطرفة."

انقلبت سياسة أوروبا الإندماجية تجاه روسيا، بشكل سريع ومستدام، مباشرة بعد غزو أوكرانيا وتحولت الى سياسة انفصالية كاملة تستعيد ذكرى الحرب الباردة. وتحولت الحرب الأوكرانية بالنسبة للغرب من حرب دفاعية عن بلد أوروبي، الى حرب "استباقية" ضد فكرة توسعية أكبر من ذلك بكثير. لذا سارع حلف الناتو لتحريك قواته شرقاً، خاصة الى دول البلطيق وبولندا بطلب منها، كما سارع الى قبول فنلندا في الحلف وهو يعمل اليوم على ضم الأسوج وجورجيا ولربما أوكرانيا نفسها اليه. وبسرعة غير مسبوقة، أحاطت أوروبا بغرب روسيا إحاطة كاملة. وفي هذا السياق، قال لويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي في آذار 2022، أي بعد شهر واحد من بدء الحرب الأوكرانية، "نريد إضعاف روسيا إلى حد لا يسمح لها بفعل هذا النوع من الأشياء كما فعلت في غزو أوكرانيا." وشرح أن هذا يعني ألا نسمح لروسيا أن تستعيد قدرتها سريعاً لإعادة إنتاج القوات والمعدات التي خسرتها في أوكرانيا.

الحرب الروسية الأوكرانية لم تعد حرباً ضد انفصاليين روس في دونيتسك ولوهانسك، كما كانت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، بل تحولت الى صراع على الهيمنة الجيوسياسية بين قطبين، له خلفيته الفكرية وأبعاده الدولية. مواجهة تشبه تلك القائمة حالياً بين أميركا والصين، ولكنها أكثر تعقيداً.


[1]  سفير لبنان لدى واشنطن سابقاً.

No comments:

Post a Comment