الخميس، ٢٩ يناير/
كانون الثاني ٢٠١٥
فرنسا
ما بعد «القانون»
English summary at end
رياض طبارة
غريب كم يتشابه ردّا الفعل الأميركي
(مباشرة بعد اعتداء 9 أيلول
- سبتمبر) 2011، والفرنسي (بعد الاعتداء
الأخير على جريدة شارلي إيبدو). في كلتا الحالتين، حصلت حملة اعتقالات عشوائية
لمسلمين واتخذت إجراءات أقل ما يقال فيها أنها تتجاهل حريات تؤمنها الدساتير
الديموقراطية.
خلال أسبوع من حصول الهجوم على الجريدة
في 7 كانون الثاني (يناير) كانت السلطات الفرنسية اعتقلت أكثر من مئة شاب مسلم
بتهم غير محددة في معظم الأحيان.
وبموجب قوانين لمحاربة الإرهاب أبرمت منذ
سنة 1986، كان آخرها قانون وضع في تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة الماضية، تمت
محاكمة بعضهم، وإصدار أحكام سجن بحقهم خلال أيام. من هؤلاء، وفق «نيويورك تايمز»،
شاب تونسي الأصل له من العمر 28 سنة كان ماراً أمام دائرة شرطة وقام بالصراخ تجاه
المركز متحدياً الشرطة قائلاً: «لقد قتلوا شارلي فضحكت كثيراً. في الماضي قتلوا بن
لادن وصدام حسين ومحمد مراح والكثير من إخوتي. لو لم يكن لدي أم وأب لكنت تدربت في
سورية»، فتم اعتقاله ومحاكمته. قبلت المحكمة دفاع محاميه بأنه كان ثملاً وتحت
تأثير حشيشة الكيف، وأنه يشكو من مشاكل عقلية، لذا حكمت عليه بستة أشهر سجن فقط.
هناك حالات أخرى مشابهة، وفق الصحيفة نفسها، تم فيها الاعتقال والمحاكمة وإصدار
الحكم بالسجن لسنوات وذلك خلال ثلاثة أيام فقط.
«اجراءات غير عادية»
من جهة أخرى، أعلن رئيس الوزراء مانويل
فالس عن «إجراءات غير عادية» ستكلف 425
ألف يورو لمراقبة 3000 شخص داخل فرنسا
(هم فرنسيون بغالبيتهم) وإصدار تشريعات لتطوير المراقبة في كل أشكالها، بما في ذلك
شبكات التواصل الاجتماعي. ويقول برونو لومير، كبير مستشاري وزير الداخلية الفرنسي،
لـ «واشنطن بوست» أن السلطات وضعت أربعين
جامعاً تحت المراقبة المشددة لكي يتحرك الأمن بسرعة عند معرفته أن أحد الأئمة
يعتمد خطاباً متطرفاً في وعظه.
وصرح رئيس الوزراء الفرنسي بأن إدارته
ستؤسس قاعدة بأسماء الذين دينوا بتهم إرهاب، أو ينتمون إلى «مجموعة إرهابية
مقاتلة» ما سيمكّن الدولة من إجبارهم على الإعلان عن أي تغيير في مكان إقامتهم أو
عن النية بسفرهم إلى الخارج. وهو سينظر في إحياء قانون «الإهانة الوطنية» الذي
تسانده المعارضة، والذي عُمل به مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية لبضع سنوات ضد المتعاملين
مع الاحتلال النازي، ويسمح هذا القانون بسحب حق المتهمين بالاقتراع أو الترشح
لمراكز رسمية. ويتخوف كثرٌ من الناشطين في مجال حقوق الإنسان في فرنسا، من أن تسنّ
الدولة في النهاية قوانين مشابهة لـ «باتريوت آكت» الأميركي الذي فتح الباب
للتجاوزات على حقوق المواطن التي تتّبعها الحكومة الأميركية حالياً، خصوصاً
المراقبة المكثفة على تحركات مواطنيها والتنصت على كل أنواع تواصلهم والاعتقال
المؤبد من دون محاكمة، وأموراً أخرى أصبحت معروفة وموضع محاربة وإن غير مجدية من
جانب الناشطين في مجال حقوق الإنسان وآخرين.
فرنسا هي الأقرب للوصول إلى الحالة
الأميركية بين دول أوروبا الغربية، علماً أن أوروبا كلها تبدو ذاهبة في هذا
الاتجاه، فالقانون الفرنسي الذي يسمح بمحاكمات مستعجلة كالتي ذكرنا هو حكر عليها
وغير موجود في الدول الأوروبية الأخرى. والقانون الذي أقر في أواخر السنة الماضية
لمكافحة الإرهاب، يسمح للنيابة العامة بأن تعتقل أي شخص تتهمه بـ «التآمر من أجل
الإرهاب» لمدة ثلاث سنوات رهن التحقيق، كما تسمح باستجوابه عند اعتقاله من دون
حضور محامٍ للدفاع عنه. ومثل هذا القانون، وفق «واشنطن بوست»، غير موجود في أية
دولة أوروبية أخرى. كما أن سهولة الإبعاد، خصوصاً بالنسبة إلى الإسلاميين، هي
الأكبر في فرنسا أيضاً.
ففرنسا أبعدت في السنوات الأخيرة مثلاً
عشرات الأئمة بتهمة التشجيع على الكراهية أو التطرف الديني، من بينهم إمام من أصول
تركية أنكر أن مسلمين اشتركوا في هجومي 9 أيلول 2001 في الولايات المتحدة. ويسمح
القانون الفرنسي، خلافاً لقوانين معظم الدول الغربية بسحب جنسية المدانين من حاملي
جنسيتين إذا كانوا قد حصلوا على الجنسية الفرنسية خلال 15 سنة أو أقل.
ازدواجية معايير
ولعل أسوأ ما في القوانين الفرنسية،
والأوروبية في شكل عام، هو ازدواجيتها في ما يتعلق بحرية التعبير. فصور شارلي
إيبدو المسيئة للنبي محمد (صلّى الله عليه وسلم) وللأديان في شكل عام، والتي،
إضافة، إلى أنها تخدش المشاعر بسوقيتها وخشونتها، مسموحة تحت شعار حرية التعبير،
بينما هناك قوانين تتعلق بالمحرقة اليهودية في ظل النازية تمنع حتى نشر البحث
العلمي حولها. كما أن هناك قوانين تتعلق بما يسمى «معاداة السامية» تسمح بمعاقبة
أي شخص يتكلم عن اليهود في شكل انتقادي، فقانون غيسو (Gayssot) الذي
أقر سنة 1990 يمنع أي كلام حول المحرقة يشكك بوجودها ويستعمل كلمات كـ «المفترضة» (présumé) أو «المزعومة»
(allégué) أو ما شابه للكلام عنها
أو عن حجمها. وهذا الحظر لا يطبق على الحالات المشابهة لأن القانون مستمد من
محاكمات القيادات النازية في نورمبورغ بعد الحرب العالمية الثانية، فعندما حصلت
محاولة قانونية سنة 2012 لوضع الإبادة الجماعية بحق الأرمن ضمن هذا القانون رفضها المجلس
الدستوري الفرنسي على أنها تخالف الدستور الفرنسي لأنها تتعارض مع حرية التعبير.
ويطبق هذا القانون بصرامة كبيرة ومن دون تمييز.
فمن المحاكمات الشهيرة في هذا المجال محاكمتا جان ماري لو بين، سنتي 1987 و1997،
عندما كان نائباً ورئيساً للجبهة الوطنية الفرنسية، وكان خلال المحاكمة الأولى
نائباً في البرلمان الفرنسي والبرلمان الأوروبي، وحُكم عليه بغرامة تعادل مئتي ألف
دولار في المرة الأولى، وخمسين ألف دولار في المرة الثانية مع مصاريف أخرى، لأنه
قلل من قيمة المحرقة بقوله أنها هامشية في سياق الحرب العالمية الثانية. المحاكمة
الثانية جاءت نتيجة محاولته تفسير كلامه عن هامشية المحرقة في تاريخ الحرب
العالمية الثانية بقوله: «ليس هناك أي تقليل من أهمية الحدث أو احتقار له. فإذا
نظرت إلى كتاب من ألف صفحة عن الحرب العالمية الثانية، حيث قتل 50 مليون شخص، فمعسكرات
الاعتقال (لليهود) لا تغطي أكثر من صفحتين، وغرف الغاز 10 أو 15 سطراً، وهذا ما
يسمّى تفصيلًا». وهناك سلسلة محاكمات البروفيسور في جامعة ليون، روبير فوريسون
الذي كان نشر مقالتين في صحيفة «لو موند» الفرنسية، المحترمة في الأوساط
الأكاديمية، يشكك فيهما في نواح مهمة من مسألة المحرقة وكذلك في صحة «مذكرات آن
فرانك» وفي المعاناة المزعومة خلال الحرب العالمية الثانية لـ «إلي ويزل» الحاصل
على جائزة نوبل، والأستاذ المختص بأمور المحرقة. حوكم فوريسون مرات عدة آخرها سنة
1995، وطرد من مركزه في جامعة ليون وغُرّم مرات عدة. وخلال كل ذلك تم الاعتداء
عليه جسدياً مراراً، وكاد يتوفى نتيجة أحدها سنة 1989، وتم تحديد المعتدين الذين
كانوا ينتمون إلى منظمة تدعى «أبناء ذاكرة اليهود»، ولكن لم يُلقَ القبض على أي
شخص. وأخيراً لا بد من ذكر الفيلسوف الفرنسي
الذي اعتنق الإسلام، روجيه غارودي الذي حوكم سنة 1998 بسبب كتابه «الأساطير المؤسِّسة
للسياسة الإسرائيلية»
وغرم بما يعادل 40000 دولار.
السخرية من الأنبياء ومن أي شخص آخر سوى
اليهود، حتى لو كانت مقزِّزة بخشونتها، مسموحة في فرنسا تحت شعار حرية التعبير.
لكن الكوميدي الأفريقي المسلم ديودونّيه مبالا مبالا الذي يسخر من اليهود وعاداتهم
هو معادٍ للسامية، لذلك اعتُقل أكثر من أربعين مرة في السنين الماضية، وهو الآن
يواجه محاكمة بسبب قوله على موقعه على «فايسبوك»: «إن التظاهرات التي شهدناها
تعاطفاً مع شارلي إيبدو تشبه بسحرها الانفجار الكوني الكبير (Big Bang). «الليلة
بالنسبة إليّ أشعر بأنني شارلي كوليبالي» جامعاً بين الجريدة وأحد الإرهابيين،
الذين قتلوا في المواجهات.
ولعلَّ الأسوأ من الازدواجية في هذا المجال
هو خيار فرنسا، كما أميركا من قبلها، الحل الأمني للإرهاب وإهمال التعامل مع
الأسباب الكامنة وراءه، فقد اختارت الحكومة الفرنسية زيادة أعداد الشرطة ودعم
المراقبة والتنصت وسنّ قوانين تحدٍّ من حرية مواطنيها والمقيمين على أراضيها،
إضافة طبعاً إلى كلمات خشبية روتينية عن أن الإسلام بريء من هذا الإرهاب. غير أننا
لو نظرنا إلى خلفية الإرهابيين الثلاثة المتورطين في العملية لوجدنا أنهم يأتون من
مناطق فقيرة ومهمشة كضواحي باريس وليون وغيرهما من المدن الفرنسية الكبرى، حيث
مستوى البطالة يتجاوز العشرين في المئة، أي أكثر من ضعف المعدل العام، ويبلغ بين
الشباب حوالى 40 في المئة. هذه المجتمعات المسلمة في غالبيتها تعيش في أفقر بيئة
في فرنسا، حيث نصف المقيمين غير حاصل على شهادة ثانوية وحيث يتعرض الشباب إلى مضايقات
مستمرة من رجال الأمن. المجتمع الفرنسي ينظر إليهم كخوارج.
استطلاع «لوموند»
في استطلاع نشر في «لوموند» سنة 2013،
أجاب 26 في المئة من الفرنسيين فقط بأن الإسلام ينسجم مع المجتمع الفرنسي، مقابل
89 في المئة حصل عليها الدين الكاثوليكي و70 في المئة الدين اليهودي. لأربع عشرة
سنة بقيت الفتيات المسلمات يُطرَدْنَ من المدارس لوضعهن الحجاب على رؤوسهن، بينما
يسمح بلباس الرأس اليهودي (أليرمولك) والصليب، إلى أن جاء الرئيس شيراك سنة 2003،
بحل أقل تمييزاً من خلال قانون يمنع لباس الرأس الديني للجميع (ليس هناك لباس رأس
ديني للمسيحيين واليهوديات لا يلبسن أليرمولك) والسماح فقط بشارات حول العنق
(كصليب صغير أو نجمة داود أو كف فاطمة). التمييز العنصري ضد هذه المجتمعات
الإسلامية وتهميشها دفعا رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس المعروف بتشدده ضد
الإسلاميين، إلى التكلم بعد الهجوم عن «وجود تفرقة عنصرية (أبارتايد) في فرنسا
بأبعاد جغرافية محلية، واجتماعية وإثنية»، ثم تكلم عن وجود تمييز يومي لأن «اسم
عائلة الشخص غير مناسب أو لأن لون بشرته غير مطلوب أو لأن الشخص هو امرأة». ويعلق
قيادي من الناشطين المسلمين في فرنسا: «إن فرنسا في حاجة إلى قوانين ضد التمييز
وليس إلى قوانين ضد الإرهاب».
حرية التعبير لا تتجزأ ولا تحتمل
الازدواجية في المعايير، فما يُطبّق بالنسبة إلى اليهود يجب أن يُطبّق بالنسبة إلى
فئات المجتمع الأخرى، بمن في ذلك المجموعة الدينية الثانية في فرنسا من حيث العدد.
وحرية التعبير لها حدود، فكما قال أحد كبار القضاة الفيديراليين الأميركيين «إن
حريتك في تحريك يدك يحدّها وجود وجهي في طريقها». التحدي الكبير هنا هو إيجاد
الحدود المثلى التي تجمع بين حماية المجتمع والحفاظ على حرياته. إن السبيل الأنجع
لمحاربة الإرهاب هو معالجة أسبابه وليس الذهاب حصراً في معالجة نتائجه أمنياً، ومن
خلال قوانين تحدّ من الحريات.
ما زالت أميركا تحارب الإرهاب بهذه
الطريقة منذ أربع عشرة سنة توصلت خلالها إلى ما اعتبرته قمة النجاح بقتل أسامة بن
لادن، وأعلنت مراراً أن الحرب على الإرهاب أشرفت على نهايتها الناجحة، وأنفقت
تريليونات الدولارات على بنية تحتية أمنية غير مسبوقة، بينما الإرهاب ما زال يزداد
ويقوى. هل ستتعلم فرنسا هذا الدرس أم إنها، كما يظهر حتى اليوم، ماضية في النهج الأميركي
نفسه؟ أميركا خسرت بذلك الكثير من حرياتها وأصبحت كما وصفها نعوم تشومسكي «أميركا
ما بعد القانون». هل سنرى بعد شارلي إيبدو «فرنسا ما بعد القانون»؟
* سفير لبنان في واشنطن سابقاً
English summary:
France
Beyond the Law
Riad Tabbarah[1]
The immediate reaction of France to the Charlie Hebdo attack resembles
the American reaction after 9/11: a mass arrest of Muslim youths (more than 100
in one week in France) and the enactment of laws that violate democratic
constitutions. According to French Prime Minister Valls and other officials,
the “unusual measures”, will cost 425 thousand Euros and will include
substantial increase in the police force, the continuous monitoring of 3000
persons in France. 40 Mosques will also be monitored so that the security
forces will intervene anytime the Imam makes what is considered extremist
statements. Many French human rights activists and others fear that France will
eventually enact a law similar to the infamous American Patriot Act.
France has already gone some ways in that direction more
than other European countries. A law enacted last year, for example, permits
the authorities to keep a person accused of conspiracy to commit terrorism in
jail for three years to complete the investigation and has already banished
scores of imams in the past few years including a Trukish Iman who denied that
9/11 was undertaken by Muslims.
There are obvious double standards in this regard, for French
(and many European laws), while they accept extremely vulgar attacks on
religious symbols as appears regularly in the newspaper Charlie Hebdo, they
forbid even doubting the Holocaust or even using the words alleged or presumed
in writing about it. This law applies only to the Jewish holocaust so when, in
2012, a legal attempt was made to include under it the Armenian genocide the
French Constitutional Council ruled that this would be in violation of the
Constitution because it conflicts with the right of speech. This law is
strictly applied. Mr. Jean Marie Le Pen, the French Deputy was fined twice for
saying that the holocaust is a detail in the history of the Second World War.
Professor Robert Faurisson of University of Lyon was tried several times under
this law for his research on the matter and beaten up several times. In one of these
incidents he almost died and it was established that the thugs belonged to a
Jewish militant organization but no one was arrested. While making fun of the
Prophets is acceptable under French law, making fun of Jews is forbidden under
the law against anti-Semitism as proven
by the more than 40 arrests of the comedian Dieudonne M’bala M’bala (see him on
You Tube).
It is unfortunate that France has chosen the security
solution to terrorism as did America before it with bad results. The three
culprits in the Charlie Hebdo case come from some of the poorest suburbs of
large cities in France where half of the residents do not have a high school
diploma and where the unemployment rate is more than twice the national average
reaching more than 40 per cent among youth. In a poll published in Le Monde in 2013
only 26 per cent of French believed that Islam is compatible with French
society against 89 per cent for Catholics and 70 per cent for Jews. Prime
Minister Valls, who is known for his anti-Islamist stand, said after the
Charlie Hebdo attack that France practices “apartheid” against Muslims.
Freedom of speech is indivisible and what applies to some
has to be applied to all. But it also has limits. The primordial question is
how to find the proper balance between protecting the society and not violating
the rights of the individual. Dealing efficiently with terrorism cannot be
exclusively through security measures but has to deal with its causes. America
has used the security approach for fourteen years already and terrorism has flourished.
Noam Chomsky described the “national security state” that America has become as
“Post-legal America.” Will we see soon a post-legal France too?