Friday, December 4, 2015

ألحرب على الإرهاب



كيف فشل الغرب في مواجهة الإرهاب في سوريا والعراق
رياض طباره[1]

خرجت الإمبراطورية البريطانية من الحرب العالمية الثانية منهكة، بينما برزت أميركا كدولة عظمى جديدة على الساحة الدولية. وعندما أَمّم رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق بترول إيران سنة 1951 لم تستطع بريطانيا، التي كانت قد خسرت الهند، وضعُفت سيطرتها على المستعمرات الأخرى، أن تثنيه عن ذلك، حتى بعد أن حركت أساطيلها، فتدخلت أميركا ورتبت انقلاباً عليه وأزاحته وأعادت الأمور إلى نصابها. منذ ذلك الحين استلمت أميركا دور حماية بترول الخليج ووضعت خطاً أحمر لأي من تسوّله نفسه التلاعب فيه. إضافة إلى ذلك استلمت أميركا، حامية البترول، قيادة الغرب السياسية في منطقة الشرق الأوسط، فهي التي تقود والدول الغربية تتبع.

لم تتوان أميركا عن لعب هذا الدور حتى في أحلك أيامها، بخاصة بعد الحروب الطويلة التي خاضتها في أنحاء متفرقة من العالم والتي غالباً ما جعلت الشعب الأميركي يميل إلى الإنعزالية (Isolationism). فبعد الحرب العالمية الثانية مثلاً جاء الرئيس هاري ترومان ووزير خارجيته الجنرال جورج مارشال الذين تغلبا على رغبة الأميركي بالإنعزال عن العالم، وأعادوه إلى الساحة الدولية من خلال خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية وإنقاذها من الشيوعية، مترافقة بحرب باردة مع الإتحاد السوفياتي. وبعد حرب فييتنام وأزمة الرهائن الأميركيين في إيران، عاد الأميركي إلى انعزاله، فجاء بعد سنين قليلة الرئيس رونالد ريغان صاحب عقيدة "ألإحتواء" التي كانت تهدف إلى عرقلة التوسع الشيوعي حيثما وجد، والتي نجحت إلى حد كبير بالوصول إلى أهدافها، في أنغولا ضد التدخل العسكري للإتحاد السوفياتي وكوبا ، وفي كمبوديا ضد تدخل فييتنام ، وطبعاً في أفغانستان ضد التدخل السوفياتي الذي يعتقد الكثيرون أن انسحاب جيوشه مكسورة من هناك كان أحد الأسباب الرئيسية في تفكيك الإتحاد بعد سنتين من ذلك.

أعطي هذين المثلين، وهناك أمثال أخرى مشابهة في التاريخ الأميركي، لأصل إلى كيفية تعامل الرئيس باراك أوباما مع العراق وسوريا، وهوالذي وصل إلى سدَّة الرئاسة بعد سبع سنوات من الحروب الفاشلة وغير المنتهية في أفغانستان والعراق، وفي جو شعبي يطالب بالإنعزال من جديد. ولكن على عكس ترومان وريغان جاء أوباما إلى الحكم، مسانداً لرغبة الاميركي بالإنعزال، ومؤمناً بضرورة انسحاب أميركا، ليس فقط من الحروب التي كانت فيها، بل من قيادة العالم.

عقيدة أوباما في السياسة الخارجية ألخصها بثلاثة مواقف: ألموقف الأول عبّر عنه أمام الإعلاميين الذين رافقوه في رحلة إلى شرق آسيا في ربيع السنة الماضية. فبعد أن ذكّره بعض الإعلاميين بالإنتقادات الموجهة لسياسته الخارجية قال أوباما أن سياسته "تتمحور حول مفهوم واحد: لا ترتكب حماقات." وعندما سئلت هيلاري كلينتون عن ذلك لاحقاً في مقابلة صحفية أجابت: "الدول العظمى تتطلب مبادئ تنظيمية، ولا تفعل حماقات ليس مبدأ تنظيمياً."
ألموقف الثاني جاء خلال مؤتمر صحفي في الفيليبين عندما طلب منه أحد المراسلين أن يشرح لهم ما هي "عقيدة أوباما" في السياسة الخارجية. أجاب أوباما: "قد لا تكون [عقيدتي] مثيرة sexy))... ولكنها تتفادى الأخطاء." ثم اقتبس من لعبة البايسبول الشعبية الأميركية حيث لا يُسجّل هدفاُ إلا بعد الوصول إلى القاعدة الرابعة قائلاً: "تصل أحياناً إلى القاعدة ألاولى وأحياناً إلى الثانية ومن حين إلى حين تسجّل هدفاً."  
الموقف الثالث جاء على لسان أحد كبار معاونيه وهو الأشهر بين المواقف الثلاثة: "القيادة من الخلف." أميركا كما أرادها أوباما لا تقود من الأمام. غيرها يفعل ذلك وأميركا تسانده. هكذا فعلت بالنسبة لليبيا حيث ساندت الناتو من خلال ضربة استباقية بواسطة صواريخ أطلقت من البحر على دفاعات ليبيا الجوية ثم مساندة لوجيستية عن بُعد. وهكذا فعلت أيضاً في مالي بمساندتها اللوجستية للجيش الفرنسي على الأرض.

وقد لخّص أحد الكتّاب الأميركيين سياسة أوباما الخارجية قبل بدء الغارات الاميركية على سورية بأيام كالآتي: "إنها سياسة تردد، وتأجيل وتفادي أخذ القرارات، تتسم بمناشدات حزينة لما يسمّى المجتمع الدولي ليفعل ما لا يستطيع أحد أن يفعله سوى الولايات المتحدة." ويضيف أحد المحللين الرئيسيين في النيويورك تايمز: "أنا لا أتهم... الرئيس أوباما بالجبن. ولكني أتهمه بأنه يبالغ بالحذر، ولا يعلم ماذا يفعل."

في آخر كانون الأول سنة 2011، وبينما كانت الفوضى تعمّ سوريا، إذ كانت ثورتها السلمية قد تحولت إلى ثورة مسلحة قبل حوالي ستة أشهر، سحب أوباما الجيش الأميركي من العراق تاركاً وراءه ما كان يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" ضعيفاً بعد أن حجمته عسكرياُ القوات الأميركية والعشائر السنية (الصحوة) ولكن حيا،ً لم يتم القضاء عليه كلياً، إذ كان قد بقي منه حوالي 700 مقاتل بحسب تقديرات المخابرات المركزية الأميركية. ألفوضى في سوريا أعادت الحياة للتنظيم الذي سرعان ما أعاد ترتيب صفوفه  بقيادة أبو بكر البغدادي.

حاول الكثيرون من كبار مستشاري الرئيس أوباما إقناعه بالتدخل في سوريا باكراً ومساندة الجيش الحر لإنهاء النزاع قبل تغلغل القاعدة والدولة الإسلامية فيها، ولكنه كان يسخر من الفكرة إذ قال لأحد الصحفيين: عندما يكون هناك جيش محترف... يحارب فلاحاً ونجاراً ومهندساً بدأوا كمتظاهرين وفجأة وجدوا أنفسهم في وسط حرب أهلية، فإن الفكرة القائلة أن باستطاعتنا تغيير المعادلة على الأرض دون ان نورط جيشنا ليست أبداُ صحيحة." وبحسب مذكراتهم، فإن وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ووزير الدفاع روبرت غايتس، وليون بانيتا رئيس وكالة الإستخبارات المركزية ولاحقاً وزير الدفاع، كلهم ألحّوا عليه بالتدخل ولكن دون جدوى. وهناك تقرير حضّرته "وكالة إستخبارات الدفاع ألأميركية" (Defense Intelligence Agency U.S.) في آب من سنة 2012 يحذر من خطر توسع المجموعات الإسلامية "وإمكانية إعلانها دولة إسلامية من خلال التحالف مع قوى إرهابية أخرى في العراق وسوريا،" ولكن أوباما لم يعره أي اهتمام. وبعد أقل من سبعة أشهر أعلن البغدادي "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في نيسان 2013 ومن ثم الخلافة في حزيران 2014.

رغم ذلك، ظل أوباما مصرّاً على موقفه حتى  اليوم الذي سبق ذبح الصحفي ألاميركي جايمس فولي في 19 آب من السنة الماضية. في ذلك اليوم (أي 18 آب) صرّح أوباما في مؤتمر صحفي أن محاربة تنظيم داعش ليست من مسؤولية أميركا مضيفاً: "نحن لسنا الجيش العراقي ولسنا حتى الطيران الحربي العراقي. أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية وعلى العراق في النهاية أن يؤمّن سلامته بنفسه." ولكن الفيديو الوحشي الذي وزعه تنظيم الدولة في اليوم التالي قلب بسرعة الرأي العام الأميركي لصالح التدخل، ما دفع أوباما على تغيير موقفه. فبدلاً من أوباما المنكفيء برز على الساحة أوباما المحارب المتردد.

بدأ الهجوم الأميركي في 23 أيلول 2014. هدف الضربات الذي أعلنه أوباما شخصياً تألف من أربع نقاط:
- دعم القوى التي تحارب على الأرض ومتابعة البحث عن حل سياسي للأزمة.
- ألحيال دون تمكن التنظيم من القيام بهجمات وتجفيف مصادر تمويله.
- مساعدة المدنيين الأبرياء  الذين هجّرهم تنظيم داعش.
- وبالنتيجة إنهاك التنظيم ومن ثم القضاء عليه.
ماذا تحقق من هذه الخطة خلال السنة التي تلت، أي حتى ايلول الماضي؟

حاولت أميركا تدريب قوة على الأرض. تم اختيار300 عنصر من الذين تقدموا للتطوع. طلب منهم توقيع تعهد بعدم محاربة النظام بل محاربة داعش فقط. وقّع منهم  أربعون تم تدريبهم وانسحب الباقون. أرسلوا إلى سوريا فقتل بعضهم وخُطف آخرون مع أسلحتهم من قبل جبهة النصرة. بقي منهم بحسب الواشنطن بوست "أربعة أو خسمة" فقط يحاربون داعش. أوقف البرنامج في أيلول الماضي بعد أن كلّف أكثر من 50 مليون دولار، أي أكثر من 10 ملايين دولار لتدريب وتجهيز كل مقاتل.
بالنسبة لتجفيف مصادر تمويل داعش، فقد أصبح التنظيم مكتف ذاتياً، بشكل خاص من خلال الضرائب والرسوم، ومن بيع البترول من آبار النفط العديدة التي يسيطر عليها في سوريا والعراق إلى النظام السوري وإلى الخارج. منذ أسابيع حصل هجوم أميركي على أحد آبار البترول الداعشي، وعلى وسائل النقل فيه،  وبعدها حصل هجوم من قبل الطائرات الروسية، ولكن من غير المنتظر أن يتم تدمير ألآبار أو معظمها أو حتى تدمير وسائل النقل لأن ذلك سيشكل من جهة كارثة إقتصادية للعراق وسوريا بعد داعش، و من جهة أخرى، يجفف حالياً المصدر الرئيسي للبترول ومشتقاته للنظام السوري، ما لا يريده إي من الأفرقاء الخارجيين، لا التحالف الأميركي ولا التحالف الروسي الإيراني. المهم في الأمر هو أن مدخول التنظيم حالياً يبلغ ما يقارب المليار دولار سنوياً بحسب تقرير نشر مؤخراً في صحيفة النيويورك تايمز.

بالنسبة لمساعدة المدنيين الأبرياء فقد اقتصرت المساعدة الأميركية بشكل رئيسي على إلقاء المعونات الغذائية للأيزيديين من الجو في منطقة سنجار ولكن الكثير منهم قُتلوا أو أخذوا أسرى أو رقيق للبيع.

أما بالنسبة لإنهاك التنظيم عسكرياُ ومن ثم القضاء عليه، فالتقديرات الأخيرة تدل أيضاً على عكس ذلك. فتنظيم داعش أصبح، بحسب قول الجنرال ديمبسي رئيس الأركان الأميركي الشهر الماضي، يسيطرعلى 250 الف كيلومتر مربع من سوريا والعراق، أي على منطقة توازي مساحتها مساحة بريطانيا العظمى، ويقطنها ما بين 10 و 12 مليون نسمة.  وبحسب أكثر التقديرات مصداقية، فإن لدى التنظيم ما يقارب المئة ألف مقاتل إضافة إلى أعداد كبيرة من رجال الأمن والموظفين الرسميين. ولعل الأمر الأكثر دلالة على توسع داعش خلال السنة الماضية هو الزيادة الكبيرة في أعداد المجندين الأجانب لديه. فبينما كان عددالمقاتلين الأجانب لدى داعش حوالي 18ألف عنصر من 90 دولة آخر سنة 2014، أصبح العدد في تشرين الثاني من هذه السنة أكثر من 30 الف عنصر من 100 دولة، أي بزيادة الثلثين في عديده، وذلك بحسب وكالة الإستخبارات الأميركية.

فشل الخطة الأميركية، وازدياد عنف المعارك على الأرض ومن الجو، ترافقا مع تدفق اللاجئين إلى أوروبا بأعداد كبيرة، ما خلق جواً من القلق في تلك البلدان، ممزوج بجرعة لا بأس بها من الإسلاموفوبيا.  غربٌ متردد لأن قائده التقليدي يصر على القيادة من الخلف، ومرتعد من ارتداد الأزمة عليه إرهاباُ ولاجئين،  فتحا الباب لتدخل روسيا العسكري في آخر أيلول الماضي، ما أضاف عقدة جديدة في مجرى الأمور المعقدة أصلاً. كما أن تنظيم داعش، تحت هذه الضربات المكثفة، وخسارات ولو محدودة على الارض،غيّر إستراتيجيته بشكل خطير . فبينما لم يكن له، حتى الماضي القريب، أنشطة إرهابية في البلدان الغربية وروسيا، بدأ بالإنتقام من الدول المشاركة في الهجومات الجوية عليه من خلال القيام بأعمال إرهابية وحشية فيها ، ما ينذر بإمكانية تحوّله إلى هذاالنمط  من التحرك كلما تم التغلب عليه عسكرياً في المستقبل.

نشهد اليوم حرباً متعددة الأطراف كل طرف أو أكثر له استراتيجيته وأهدافه. أميركا وتركيا وغالبية الدول العربية الإقليمية، على سبيل المثال، تصر على أن لا إمكانية لقهر تنظيم داعش سوى برحيل ألأسد ومعاونيه. إيران تريد بقاء الأسد إلى الأبد وحليفتها روسيا تؤيدها بالتركيز على ضرب القوى التي تبغي إزاحته بدلاً من ضرب داعش، علماً بأن لا اتفاق بين المغيرين على ما هي التشكيلات المقاتلة التي تعتبر إرهابية. وكل الأفرقاء الخارجيين يقولون أنه من غير الممكن التغلب على داعش دون وجود قوة ضاربة كبيرة على الأرض، ولا أحد منهم يريد أن يضع قواته على الأرض.  أما الخلاف بينهم حول توزيع الحصص في سوريا والعراق بعد انتهاء الأزمة، فحدّث ولا حرج.

يسأل البعض، أين نحن من النهاية؟ من حسن حظي أن الجواب على هذا السؤال يقع خارج ما طلب مني في هذه الكلمة. سأقول فقط لمن يسأل ما قاله تشرتشل بعد معركة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية. قال: "نحن لم نصل إلى النهاية ولا حتى إلى بداية النهاية. في أحسن الأحوال لربما نكون قد وصلنا إلى نهاية البداية." ودامت الحرب بعد ذلك ثلاث سنوات.


[1]  محاضرة ألقيت في المؤتمر السنوي لرابطة أصدقاء كمال جنتلاط حول "ألشرق الأوسط ومخاطر التطرف الديني" في 3 كانون أول من سنة 2015. 

No comments:

Post a Comment